خواطر مواطن مهموم (139)

خواطر مواطن مهموم (139)
توفيق اكليمندوس

توفيق اكليمندوس

8:27 ص, الأحد, 15 مايو 22

بعض الخواطر حول الإستراتيجية الكبرى

للسياسة الخارجية المصرية سمات تثير الإعجاب وتستحق الإشادة، منها احترامها قواعد القانون الدولى وتمسكها بها، ومنها عدم مجاراة الموضة والحرص على إدخال اعتبارات الأجل الطويل فى الحساب، ومن ثم على الإبقاء على شعرة معاوية مع الخصم مهما اشتدت حِدة الخصام، والتوجس الشديد من زعزعة الاستقرار، ومنها القدرة على قراءة دقيقة لموازين القوة الدولية، والتعامل معها بمرونة، والوزارة كمؤسسة تجيد نقل المعرفة بين أجيالها المتعاقبة، والتعاون مع أجهزة الدولة الأخرى، وهى وجه مشرق لمصر ولدولتها لا شك فى هذا…

ويكاد يُجمع الخبراء على عدم وجود إستراتيجية كبرى لمصر، فهى تجيد رد الفعل والتأقلم والمناورة، وتتمسك فى كل الأحوال بالقوانين والمواثيق الدولية، لكنها لم تحسم أمرها فيما يتعلق بالتوجه العام الحاكم لكل التحركات أو أغلبها، دون تفاصيل لا نستطيع أن نقول إن مصر تمارس ما سماه ناصر الحياد الإيجابى وعدم الإنحياز، ولا يمكن أن نقول إنها منضمّة لمعسكرٍ ما تعادى أعداءه وتنسِّق معه فى أغلب الملفات، ولا هى منخرطة تمامًا فيما يسمى معسكر الاعتدال العربي، الذى يعرف انقسامات حادة بين أعضائه.

يختلف الخبراء فى كل أنحاء العالم وفى مصر حول قضية الإستراتيجية الكبرى. هل هى ممكنة فى العصر الحالي، وعلى فرض الرد بالإيجاب هل هى ضرورية أو مستحَبة أو ضارة؟ من يقول بعدم ضرورتها يشير إلى الصعوبات المتزايدة فى قراءة الحاضر والمستقبل، ولا سيما أننا على مشارف عالم ونظام دولى جديد تمامًا، لن تساعدنا دروس الماضى على فك طلاسمه، مثلًا الحرب الباردة لا تصلح مقياسًا لأن اقتصادات الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتى لم تكن مرتبطة متداخلة كما هى الحال الآن بين الولايات المتحدة والصين. وفى الاتجاه نفسه نحن على أعتاب ثورات تكنولوجية وعسكرية لا يمكن أن نتصور بدقة كيف ستؤثر على موازين القوة العالمية. وهناك سبع تكنولوجيات جديدة ستكون محصورة على الكبار ويحددون هم إن أرادوا بيعها أو احتكارها، ولمن يبيعوها، وهناك تكنولوجيات تطورها دول متوسطة القوة تتميز بالفعالية وقلة التكلفة، وقد تسمح هذه التكنولوجيا لهذه الدول المتوسطة باللعب فى دورى الكبار على الأقل فيما يتعلق ببعض الملفات، وطبعًا لا نعرف بالضبط لا آليات لا تكلفة لا آفاق عملية الانتقال إلى اقتصاد بيئى أو لا نعرف تأثير الاحتباس الحرارى على التوزيع السكانى وعلى الزراعة وعلى البحار- المحيط الشمالى أصبح صالحًا للملاحة- وما إلى ذلك.

وباختصار يبدو أن النظام الدولى دخل مرحلة يعم فيها عدم الاستقرار الشامل؛ لأسباب؛ منها الصراع على الصدارة والهيمنة، ومنها تكاثر عدد الدول الفاشلة التى تتحول إلى مسرح صراعات داخلية وإقليمية ودولية، ومنها ارتفاع عدد المهاجرين واللاجئين… نتكلم عن عشرات، بل مئات الملايين.

مصر تواجه عدة تحديات يفاقمها انهيار بعض الدول والسلوك العدوانى لدول أخرى، وسوء تقدير النخب الأمريكية والأوروبية للأمور فيما يتعلق بمنطقتنا وبأفريقيا، وزيادة حِدة التوتر على الساحة الدولية. فى تصورى يجب ألا ننسى أبدًا قضايا الماء والأمن الغذائى وتآكل الشواطئ والجبهة الداخلية وقاعدتنا التكنولوجية ومجالنا الحيوي، والمشكلة أن مقتضيات التعامل مع أيٍّ منها كثيرة، وأن مواردنا محدودة.

يلاحظ أن الولايات المتحدة رغم ميل قطاعات واسعة من نُخَبها وجمهورها إلى الانعزالية، ترى أنها فى حاجة إلى حلفاء رغم إمكانياتها الهائلة، ومن ثم يفرض سؤال البحث عن حلفاء نفسَه علينا، وهنا تظهر أول قائمة طويلة من الصعوبات والمعوقات، ذاكرتنا الجريحة ودوام ممارسات الهيمنة يلعبان دورًا كبيرًا فى مدركاتنا عن الغرب؛ شأنهما شأن تطور مجتمعاته وثقافاته فى اتجاهات لا نحبُّ الكثير منها، لكن المشكلة الرئيسة هى طبعًا استمرار نهج التدخل فى الشئون الداخلية والإكثار من الشروط قبل تقديم المعونات وعدم احترام مصالحنا الحيوية.

يتبع

* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية