خواطر مواطن مهموم (126)

خواطر مواطن مهموم (126)
توفيق اكليمندوس

توفيق اكليمندوس

6:44 ص, الأحد, 6 فبراير 22

فى الإستراتيجية العليا (5)

فى هذه الورقة أجتهد؛ بمعنى أننى أبدى رأيًا مبنيًّا على انطباعات، وهو رأى يحتمل الخطأ.

من الواضح أن الدول العربية الكبرى الحديثة لم تنجح فى إقامة أحلاف عسكرية فيما بينها، أو فى إنشاء قوة عربية موحدة، وأن المحللين يميلون إلى الاستسهال ونسب هذا الفشل إلى أهواء وهواجس الحكام، ورغبة كل منهم فى أن يكون القائد الأوحد، ولا ننكر أن هذا العامل موجود ومؤثر.

وهناك من ينسب هذا الفشل إلى طبيعة أنظمة الحكم، وفقًا لهم، القرار السيادى فى يد واحدة، والمؤسسات ضعيفة، والعمل المؤسسى مرتبك، لكن هذا التفسير رغم وجاهته الظاهرة غير مقنع، إذ نستطيع أن نقول إن الدول العربية الهامة بنَت مؤسسات عسكرية وأمنية، وأن التشابه فى أسلوب اتخاذ القرار السيادي- على فرض أن هذا صحيح- من شأنه تسهيل إقامة الأحلاف وليس تعقيدها. أفهم طبعًا أن هناك مخاوف من أن تشكيل حلف سيقيد نسبيًّا حرية كل قائد فى السياسة الخارجية، ولكننى أتصور أن هذه المخاوف مُبالَغ فيها.

يبدو لى أن الأسباب الرئيسة للفشل هى الاختلال الكبير فى موازين القوة وفى الثروة من ناحية، والاختلاف فى تحديد أهمية التهديدات وكيفية التعامل معها من ناحية أخرى، ووجود بديل هو العلاقات مع الولايات المتحدة من ناحية ثالثة. وفى جملة واحدة، هناك أسباب تدفع القيادات إلى اعتقاد أن المزايا المتوقعة من الحلف أقل بكثير من تكلفته وتبِعاته، ويبقى السؤال: هل هذا الاعتقاد فى محله؟

لا أظن أننى أهين أحدًا إن قلت إن الجيوش المصرية والجزائرية والمغربية لا مثيل لها فى العالم العربي، ولكن الجزائر الشقيق بعيد عن المسارح التى تهم العالم العربى باستثناء المسرح الليبي، ومن ناحية أخرى فهو يراقب عن كثب تطور الأحداث على حدوده الجنوبية فالوضع فى مالى متفجر بل كارثى. ونعلم أن العلاقات بين الجزائر والمغرب متوترة جدًّا، وشأنه شأن الجيش المصرى، على الجيش الجزائرى تأمين حدود طويلة جدًّا. يضاف إلى كل هذا أن أغلب التسليح الجزائرى روسي،

سؤال الحلف يفرض نفسه فيما يتعلق بمصر والخليج، فالكل له مصلحة فى تأمين البحر الأحمر وباب المندب والخليج العربى، والكل له مصلحة فى أمن وسلامة دول شبه الجزيرة العربية، ليس فقط للأسباب العاطفية والهوياتية والقومية والطائفية، ولكن لأسبابٍ اقتصادية واجتماعية.. والكل يشترى الأسلحة من نفس المصادر تقريبًا ويتعاون مع نفس القوات المسلحة تقريبًا.

أتصور أن أحد الأسباب هو أن مستوى القوات المسلحة المصرية وحجمها سيمنحان مصر الحق فى المطالبة بصوت راجح فى أية قوة عربية موحدة أو فى أى حلف، وأتصور أن قوة الخليج المالية ستمنحه الحق فى المطالبة بالأمر نفسه، وطبعًا لن نقبل بهذا وسنكون مُحقّين، ولن يقبلوا بهذا، وسيكونون مُحقّين، والسؤال: هل هناك حلّ لهذه المعضلة.

لا أملك المعرفة الكافية للرد على هذا السؤال. هل يمكن الاتفاق على موقف موحد فى حال حدوث سيناريوهات محددة سلفًا؟ هل يمكن تحديد مساحة جغرافية يسرى فيها مثل هذا الحلف دون غيرها كخطوة أولى؟ هل يمكن بناء تدريجى لبيروقراطية تتولى التخطيط وتكون إطارًا لمناقشات جادة؟ قالت لى كوادر فرنسية إن الناتو ليس فقط حلفًا عسكريًّا، بل الإطار الوحيد الذى يسمح بمناقشات جادة دون حساسيات بين الدول الأعضاء. هل إقامة مثل هذا الحلف تستوجب مناقشة ارتباطات كل عضو، وهل سنقبل، وهل سيقبلون.

حتى لحظة كتابة هذا المقال، لا أعرف وأظن أنه لا أحد يعرف إذا كان التصعيد الروسى على حدود أوكرانيا قوّى ترابط الحلف الأطلسى أم أبرزَ ضعفه وانقساماته، قرأنا مقالاتٍ تدافع عن التشخيصين. فى منطقتنا خصومنا أو القوات المناوئة لنا لا تختار مسلك التهديد المباشر، بل تفضّل المواجهات بالوكالة.

* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية