خواطر مواطن مهموم 125 فى الاستراتيجية العليا (4)

خواطر مواطن مهموم 125 فى الاستراتيجية العليا (4)
توفيق اكليمندوس

توفيق اكليمندوس

10:02 ص, الأحد, 30 يناير 22

إحدى سمات الصراعات الدائرة حاليًّا فى العالم بصفة عامة، وفى المنطقة بصفة خاصة، هى صعوبة بل شبه استحالة تحقيق نصر عسكرى حاسم، يؤدى إلى إنهاء الصراع وإلى رسم خريطة جديدة يقبلها الطرف المهزوم وتتمتع بنوع من الثبات والاستقرار، وتتفق ومصالح الطرف المنتصر، وسمة أخرى تختص بها بعض المناطق؛ ومنها منطقتنا، هى الصعوبة البالغة فى التوصل لحلٍّ سياسي، وسمة ثالثة هى صعوبة بناء أحلاف عسكرية.

أطاحت الولايات المتحدة بحكم صدام حسين فى ثلاثة أسابيع، ولكنها عجزت عن إخضاع المقاومة العراقية، تركيا ما زالت عاجزة عن القضاء على الخطر الكردي، وإسرائيل لم تنجح فى الإطاحة بحكم حماس فى غزة، ولم تتخلص الحكومة العراقية من خطر داعش، وما زالت الدولة السورية عاجزة عن فرض نفوذها على كل أراضى البلاد، ولا حسم عسكريًّا فى الأفق بكل من اليمن وليبيا، وفى الحالات القليلة التى شاهدنا فيها نصرًا مبينًا- طرد الأمريكيين من أفغانستان- أو على الأقل: واضحًا، طرد داعش من الموصل مثلًا- فإن ثمن النصر مخيف.

المشكلة تكمن فى سهولة وقلة تكلفة المقاومة، فوضع متفجرات فى الطرق أو فى المبانى لا يتكلف الكثير، وفى سهولة العثور على بيئة حاضنة وعلى دعم خارجي، وفى بعض الأحوال يكون القتال عملية مُربحة، فى ليبيا وفى مالى مثلًا التحكم فى منافذ إقليم أو مدينة، أو فى أجزاء من بعض الطرق التجارية يسمح بجباية أموال وبالانخراط فى عمليات التهريب.

ويقول بعض خبراء الإستراتيجية إنه آن أوانُ رد اعتبار مفهوم النصر الحاسم؛ وهو مفهوم يكرهه المزاج الليبرالى السائد؛ لأن تحقيق مثل هذا النصر يتطلب عمليات تدمير كثيفة تخالف القانون الدولى وتُلحق خسائر جسيمة وفادحة فى الأرواح والأموال تدفع أحد الأطراف إلى الاستسلام. ويقول هؤلاء الخبراء إن تحريم وتجريم هذا التدمير يؤدى إلى إطالة الصراعات إلى ما لا نهاية.. وأيًّا كان الأمر يلاحظ فى المنطقة أن الفاعلين لا يبالون كثيرًا بحجم الخسائر المدنية، وأن وفرة الشباب والمراهقين، وعدم وجود فرص عمل ووظائف يتغلبان على الخسائر فى أرواح المقاتلين.

وتلعب ثقافة الثأر دورًا هامًّا فى إطالة الصراع وفى صعوبة إيجاد حل سياسى بعد أن سال الدم، ولكنها ليست العامل الوحيد، كما أسلفنا فإن الحرب تسمح لعدد كبير من الفاعلين بالتربح، ومن ثم لا مصلحة لهم فى إنهائها، وعدد كبير من الصراعات فى المنطقة لها بُعد طائفى أو ديني، والطائفة ركن أساسى من أركان الهوية، والدين مجاله المقدس والمطلق الذى تستحيل فيه الحلول الوسطى، وطبعًا تلعب الأطراف الخارجية الداعمة للفصائل والميليشيات المتناحرة دورًا فى تأجيج الصراع.

هذه الظواهر والحقائق توضح حكمة القيادة المصرية وحصافتها، عندما ترفض أن تنخرط فى هذه الصراعات رغم قوة جيشها، ورغم الاستفزازات المتكررة، وإن انخرطت تختار انخراطًا محدودًا محسوبًا بدقة، هذه الصراعات طويلة وتستنزف الموارد والدم، وأحوال مصر الاقتصادية وضرورات معركة البناء لا تسمح بتبديد الطاقات، لم ننس درس التدخل فى اليمن وتأثير هذه الحملة رغم وجاهتها السياسية والإستراتيجية على جاهزية جيشنا وعلى أموالنا.

إلى جانب تكلفة السلاح وقدسية الدم المصري، نعرف أن هذه الصراعات تقتضى فى أحوالٍ ليست بالقليلة شراء ولاء بعض القوات والميليشيات، التى تغير توجهاتها إنْ وَجدت من يدفع أكثر، ومن الواضح أن مصر أقوى الأطراف عسكريًّا، ولكنها من أضعفهم ماليًّا.

ونشير أخيرًا وليس آخِرًا إلى صعوبة إقامة أحلاف عسكرية مع دول الجوار، الأسباب الموضوعية كثيرة، والاعتبارات النفسية أكثر، نكتفى هنا بالقول إن إقامة حلف عملية يسهلها تحديد العدو تحديدًا لا لبس فيه، ومن ناحية أخرى أظن أن هناك من يرى فينا ماردًا فقيرًا، خطيرًا فى حد ذاته ولأنه فقير.

* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية