الإستراتيجية العليا (3)
بدايةً أذكّر القارئ بأن الإستراتيجية علم وفن وثقافة؛ بمعنى أن الإلمام بالأصول ضرورى وغير كاف٬ والخيال مطلوب؛ شأنه شأن القدرة على الإلمام بالتفاصيل٬ لتنمية القدرات على تصور المستقبل وتوقعه٬ وتحديد ما هو هام، وما هو ثانوي٬ وكلما ألمّ الخبير بتاريخ هذا العلم٬ وبالتاريخ العسكري٬ وبتفاصيل الجغرافيا وبثنايا الملفات العسكرية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية والمالية والعلمية والدينية والفكرية٬ كلما ارتفع قدره وزاد إبداعه.
وطبعًا لا أدّعى الإلمام المطلوب، بل أعلم أن معرفتى ناقصة فى مجالات محورية٬ على سبيل المثال لا الحصر؛ لا أعرف الكثير عن حال البحث العلمى والقاعدة التكنولوجية فى مصر٬ سواء فى القطاع المدنى أو العسكرى٬ لا أعلم نقاط قوتنا ونقاط ضعفنا٬ لا أعلم إن كانت نهضتهما ممكنة بثمن تستطيع الدولة تحمُّله٬ وإن كانت ممكنة فما المدة المطلوبة لظهور ثمارها. ما أعلمه هو أهمية عدد المبعوثين٬ وأن من يبيع لك أنواعًا من التكنولوجيا أو من السلاح، سيطلب منك مقابلًا قد يؤثرعلى استقلالك٬ وأن الصفقات التى تتضمن نقل التكنولوجيا أو منح حق التصنيع المحلى مكلِّفة أكثر من صفقات البيع العادية٬ وفى المقابل أعرف أيضًا أن هناك دولًا تصنِّع السلاح وتبدع فى التكنولوجيا، ولكنها لا تتمتع بهامش كبير فى التفاوض؛ لأن الحفاظ على قاعدتها الصناعية والتكنولوجية يقتضى العثور على مشترٍ؛ لأن مشتريات جيشها الوطنى لا تكفى لتمويل القاعدة إياها.
نعود إلى ملعب أعرف بعض ملامحه٬ من الواضح أن مصر تواجه تحديات أمنية وعسكرية متنوعة٬ ومن المعلوم أن خريطة التحالفات الإقليمية متغيرة٬ علاقاتنا مثلًا مع دولة صديقة وشقيقة تمر بأزمة مكتومة وعميقة كان من الصعب توقعها نظرًا لعمق الروابط٬ وتحسنت فى الوقت نفسه علاقتنا مع دولة كانت مناوئة.
ما أريد قوله إن اتساع نطاق التحديات هو الذى يجعل التحالفات طويلة الأمد ضرورية وشبه مستحيلة- أو على الأقل بالغة الصعوبة- فى آن واحد. هذه الصعوبة البالغة ليس سببها عُقَدنا أو عقد أشقائنا النفسية٬ الحقيقية أم الوهمية ٬ وإن لعبت أحيانًا هذه العقد دورًا فى تعقيد قضايا هى أصلًا صعبة.
تفصيل هذا… يترتب على اتساع نطاق التحديات أن عليك تخصيص موارد وقوات كبيرة لمواجهتها٬ ومن ثم تقلّ قدرتك على تقديم المعونة ويد العون لغيرك، مما يقلل جاذبية التحالف معك٬ وبما أن الأطراف الأخرى تواجه المشكلة نفسها؛ أى تواجه تحديات كبيرة ومتزايدة تلتهم مواردها وتحتاج فيها إلى دعم قوي٬ فإنها ستطلب منك دعمًا ضخمًا فى وقت غير ملائم بالمرة.
ويلعب انهيار بعض الدول دورًا فى تعقيد الأوضاع؛ لأنه يزيد التحديات ويقلل عدد الدول القادرة على التعامل معها٬ مع الاعتراف بأن هذا الوضع المُضر إجمالًا يكون أحيانًا فى صالحك؛ لأنك تصبح الخيار الوحيد والضرورى والمطلوب.
هذا مدخل أوليّ٬ ولكن الإستراتيجية فن معقَّد٬ ولكل قاعدة استثناءات٬ من الواضح أن تأمين حدودنا الغربية يقلل قدرتنا على الحركة على جبهات أخرى رغم النمو الهائل لقدرتنا٬ ومن الواضح أن النشاط الإيرانى فى المشرق والجزيرة العربية؛ بما فيها اليمن، يؤثر سلبًا وبقوة على موارد وقدرات دول الخليج التى طالبت وقد تطالب بعون برى مصرى، ولا سيما أن مصر دولة تنفرد عربيًّا بقدرتها على تنظيم عمليات إنزال قوات من البحر إلى البر وبناء رءوس جسور.
هناك استثناءات٬ فتكثيف الوجود المصرى البحرى فى البحر الأحمر لتأمينه وتأمين النيل يخدم مصالح مصر ويحميها، وفى الوقت نفسه يحمى ويخدم مصالح دول الخليج. هنا نقدم دعمًا دون مجهود إضافى غير مقدور عليه.
لا أقلل من شأن حكمة سياساتنا الخارجية٬ لكننى أخشى أنه كُتب علينا مواجهة الأخطار منفردين٬ أو منخرطين فى تحالفات قصيرة العمر.
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية