الإستراتيجية العليا (2)
عائدٌ للتوّ من منتدى الشباب العالمى فى شرم الشيخ، حيث أمضيت أيامًا ممتعة ومثمرة ودافئة مع زملائى وأساتذتى كبار خبراء المركز المصرى للفكر والدراسات الإستراتيجية، وطبعًا لا أزعم أننى أعبر عن وجهة نظرهم، وأغلب كلامهم مِلكهم ولا حقَّ لى فى اقتباسه، ولكن الحوارات الطويلة معهم ساعدتنى على بلورة أفكارى وأتحمل طبعًا مسئولية أى شطط.
لن أطيل فى وصف حال الجوار المباشر فهو واضح، أغلب دول الجوار فى أزمة وضعف يهددان وحدتها ومستقبلها، بل بقاءها، وفى أغلب الأحوال نستطيع أن نقول إن الدولة المركزية القوية لن تعود فى المستقبل المنظور، وأن تفتيت هذه الدول إلى أقاليم منفصلة لن يخدم المصالح المصرية، بل سيزيد من مصادر التهديد ويُعقّد الحسابات، وأخصُّ بالذكر إثيوبيا؛ سواء عادت الدولة المركزية قوية أم تفتّتت إلى أقاليم، فإن مفاتيح المياه ستبقى فى أيدٍ تُكنّ العداء والكراهية لمصر.
وهذا الوضع فتح شهية دول لها مطامع إمبراطورية وخطابات دينية، ودول- موانئ ثرية تملك الجاه وتريد تأمين الشواطئ وإبعاد أعدائها عنها ومنع ظهور كيانات منافسة لها، وتوفير سكك لصادراتها من الطاقة، وطبعًا لا تغيب الدول الكبرى عن المشهد، تصون هيمنتها التقليدية، أو تدافع عن مصالحها وتفتح أسواقًا وتُحارب الحركات الإرهابية العابرة للدول، وتبحث عن موطئ قدم يسمح لها بمضايقة خصومها وحماية زبائنها، وعن قواعد عسكرية على الشواطئ لتأمين خطوط الملاحة، وتتعقد خرائط التحالفات والعداوات والصراعات وتتغير باستمرار، شريكك التجارى قد يكون عدو حليفك العسكري/ الأمنى، تتعاون مع دولة فى ملف، وتُخاصمها فى ملفٍّ آخر، تكون لك مصالح فى كيانين يكرهان بعضهما البعض… إلخ. الكل يوظف كل أدواته أو بعضها، المال والعتاد والرسالة الدينية والمنتجات الثقافية ورصيد المعارف والخبرات…
أين نحن من كل هذا؟ نعلم جميعًا أن مصر تواجه تهديدات آتية من الشمال والجنوب والشرق والغرب، وتهديدات وتحديات داخلية، ونعلم جميعًا أن المخاطر العسكرية/ الأمنية قد تأتى من ميليشيات ومن جيوش قوية ومن حركات إرهابية، مواجهة تركيا ليست كمواجهة ميلشيات ليبية أو كمواجهة إثيوبيا. ولا أريد الدخول فى تفاصيل الاختلافات بين أنواع المواجهات.
ما يثير انتباهى هو صحة مقولات متناقضة، من ناحية نستطيع أن نقول إن مصر فى أقوى حالاتها، ومن ناحية أخرى لا نكون مخطئين إن قلنا إن مصر فقدت بعض الأدوات والقدرة على صياغة الإقليم أو جوارها المباشر بطريقةٍ تصون مصالحها وتحقق أمنها.
مصر فى أقوى حالاتها عسكريًّا؛ البحرية وهى ذراع ضرورية عرفت طفرة مذهلة فى عصر الرئيس السيسى، وأصبحت ذراعًا طويلة قادرة على الردع، وأكثر من هذا، سلاحها الجوى تطوَّر تطورًا يُجبر الفاعلين الآخرين على التزام الحرص، مصر عززت وجودها فى البحر الأحمر وفى شرق المتوسط. والقوات البرية نوَّعَت من مهاراتها. بصفة عامة المؤسسة العسكرية تصون أمن الوطن، وهى مؤسسة لا مثيل لها فى العالم العربى، فلها أُطر تنظيمية تسمح لها بأن تكون فى آن واحد جهازًا عقلانيًّا/ قانونيًّا يعمل وفقًا لضوابط وأسرة تحمى أبناءها والوطن، ولها معارف مكتسبة وأدوات لنقلها من جيل إلى آخر، ولها ذاكرة وعقيدة أمن قومى تجمع بين الثبات والمرونة، ولها لغتها ومصطلحاتها وأساليبها.
عدد سكان مصر ومعدلات زيادة السكان هما بمثابة تهديد للاستقرار الداخلى من ناحية، ولكنهما من ناحية أخرى يجعلان مصر سوقًا يُعتدّ بها ويحثّان دول أوروبا على تثمين استقرارنا، ورغم تدهور مستوى التعليم فإن مصر ما زالت دولة تصدِّر الكفاءات والعقول، والتعددية الثقافية فى مصر قد تشكل صداعًا فى بعض الأحوال، ولكنها مصدر ثراء فى أغلبها.
وتمتلك مصر أوراقًا هامة فى مجال الدين، لا ندرك فى مصر ثقل الأزهر الشريف ووزنه ووزن شبكاته، ولا ندرك ثقل الأرثوذكس فى إفريقيا.
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية