عن الأفول والانحطاط (3)
كانت كتابة هذه الحلقة أمرًا صعبًا، فنحن الآن بصدد التصورات عن الأفول والانحطاط التى سادت فى القرون الوسطى، وهى حقبة زمنية بالغة الطول، إذ استمرت ألف سنة، وتلعب فيها التصورات الدينية دورًا محوريًّا، وأغلب مادة كتاب فرويند مسيحية المصدر، وكان عليّ أن أتصور ما هى القضايا الخاصة بالمسيحية، وما هى القضايا العابرة للأديان، إن جاز التعبير. واستعنت بكتاب لأحد المستشرقين؛ الدكتور فيليو، الذى درس فكرة الساعة ونهاية العالم فى التراث الإسلامى.
يشترك الإسلام والمسيحية فى مفهوم “الساعة”، فى فكرة نهاية للعالم وللتاريخ، وفى مفهوم “علامات الساعة” وهى سلسلة من الكوارث التى تسمح لقوى الشر بالتحكم فى مصائر البشر والمؤمنين، بعض هذه الكوارث طبيعية- زلازل وسيول وأوبئة، وبعضها سياسية- انحطاط الحضارة وهزيمة قوى الخير على يد قوى الشر، وبعضها أخلاقية ومعرفية- انتشار الجهل والزنا والظلم، وتشترك الديانتان فى القول بعودة السيد المسيح ليقهر المسيح الدجّال.
هناك فى الحضارتين المسيحية اللاتينية والإسلامية فقهاء ومثقفون حاولوا الربط بين أحداث أيامهم الجلل وعلامات الساعة ونبوءات الأنبياء، ولا سيما النبى دانيال صاحب القدرات على تفسير الأحلام ونظرية تعاقب الإمبراطوريات.
ربط ابن عربى الحروب الصليبية بعلامات الساعة، ورأى القرطبى فى سقوط قرطبة علامة من علامات الساعة، ابن كثير فعلها مع غزو المغول، وابن خلدون مع صعود العثمانيين، وهلم جرًّا.
ولكن هناك فوارق بين العالمين العربى الإسلامى والمسيحى اللاتينى، مثلًا اعتقد المسيحيون الأوائل وخلَفهم أن السيد المسيح سيعود بسرعة وأن نهاية العالم وشيكة الحدوث، وكان الرعب من هذا السيناريو- حكم المسيح الدجال وكوارث وموت الملايين فى ظروف بشعة- مسيطر على عقل ووجدان العامة وأغلب رجال الدين والكُتاب.
واجتهدت أجيال من المفكرين بحثًا فى الكتب المقدسة عن أدلة مستترة تسمح بالقول إن المجتمع يعيش أيامه الأخيرة، فتصف أمراض المجتمع وتحاول بيان أن حاله موصوفة فى الكتب المقدسة، واختلف الكُتاب حول هوية الإمبراطوريات الأربع التى قصدها النبى دانيال، هل مثلًا الإمبراطورية الرومانية فى العصور القديمة والإمبراطورية الجرمانية الرومانية فى العصور الوسطى طوران لنفس الإمبراطورية، أم إمبراطوريتان مختلفتان؟ وهناك من رأى أن الفساد المعجل لعلامات الساعة والمعبر عنها هو فساد الساسة والسلطة الدنيوية، ومن قال إن هذا الفساد ليس هامًّا وأن الفساد القاتل هو فساد المؤسسة الدينية ورجال الدين، واجتهدوا واختلفوا فى بيان مظاهر هذا الفساد، بيع الفتاوى، خضوع السلطة الدينية لتدخلات السلطة السياسية، سعيها إلى الحلول محل الأخيرة، السلوك الشخصى لرجال الدين، وهناك من قال إن الفسق ليس حاسمًا بل العامل الحاسم هو ترك المؤمنين للدين، واجتهدوا لتحديد ملامح المسيح الدجال وسمات حكمه، واختلفوا: هل هناك مسيح دجال واحد، أم ستشهد نهاية كل مرحلة تاريخيًّا مسيحًا دجالًا؟
وفى وقتٍ ما فى نهاية العصور القديمة وأيام الانحطاط الذى أدى إلى سقوط الإمبراطورية الرومانية تم ربط سؤال الانحطاط بالدين، إذ نسب أبناء الديانات الرومانية القديمة القائمة على تعدد الآلهة أفول روما وعجزها عن الدفاع عن نفسها- إلى انتشار الديانة المسيحية بين أبنائها، هذا الانتشار أغضب الآلهة القديمة، ومن ناحية أخرى فإن المسيحية الداعية إلى الأخوّة بين البشر تضعف الرابط الوطنى والولاء للوطن دون غيره، وتدفع إلى التسامح مع الأعداء، ولا تساعد على بث روح الجندية، وانبرى المفكرون المسيحيون وردّوا على هذا الكلام، وكان أشهرهم القديس أوغسطين؛ الذى بيّن أن الغزاة كانوا من المسيحيين، وترتّب على ذلك عدم قيامهم بذبح سكان روما بل تركوهم على قيد الحياة، وأضاف أن روما كانت دولة غازية ظالمة لجيرانها ومنافسيها، وأن هذا ما أدى إلى هزيمتها وعقابها، إلى جانب تحليلات أخرى أهم بكثير جعلت من كتابه أحد أمهات الكتب.
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية