أفول وانحطاط الحضارات (1)
أمضيت جزءًا كبيرًا من الأسبوع فى تساؤلات عن أفول وانحطاط الحضارات، والسؤال متعلق بطبيعة عملى فى وحدة الدراسات الأوروبية للمركز المصرى للفكر والدراسات الإستراتيجية. وفى الجزء الثانى من الأسبوع شاهدت حلقات نقاشية حول «جندى المستقبل» وتأثير الثورات التكنولوجية المتعاقبة والمتسارعة عليه.
سؤال أفول وانحطاط فرنسا وأوروبا سؤالٌ فرض نفسه عليّ منذ إقامتى الثانية فى باريس فى التسعينات، وعند آخِر سفريتين لى، فوجئت بمكانته المركزية فى عدد ضخم من الحلقات النقاشية ومن البرامج التليفزيونية ومن أحاديث الصالونات، بين مؤكد لصدق هذا التشخيص والناكر له. وكانت مشكلتى الشخصية هى أننى دائم الإحساس منذ عقود من الزمن بأننى أشاهد فى فرنسا وأوروبا تاريخ أفول وانحطاط حضارة، بينما لا أحس أبدًا بهذا فى مصر، رغم أن حالة مجتمعنا لا تسرُّ وأن الأزمات التى نقوم بمواجهتها عميقة ومزمنة وتتفاقم.. هل تلعب العوامل الذاتية دورًا فى تشخيصى هذا؟ ما الفارق بين ظاهرة حِدة وتعدد الأزمات وظاهرة الأفول والانحطاط؟ وهلم جرًّا.
وقررت هذا الأسبوع أن أطلع على الكتب التى تناولت هذه القضية. وأهمها كتاب أستاذ أصدقائى ومعلمهم ومصدر إلهامهم؛ الدكتور جوليان فرويند؛ وهو مفكر جدير بالإعجاب، سواء لأعماله الفكرية الرائدة أو لدوره فى المقاومة الفرنسية أثناء الحرب العالمية الثانية، لم ينل من الشهرة نصيبًا يستحقه، لأسبابٍ نذكر بعضها على عجالة، كان يدرس فى جامعة ستراسبورج وكان قليل الذهاب إلى باريس، جاء مرة بعد إلحاح من أصدقائى وأعطى محاضرة مذهلة دفعت الطلبة إلى الوقوف والتصفيق الطويل له رغم الاختلاف الكبير بين ميوله السياسية وميولهم. أتذكر المشهد جيدًا وأتذكر بكاء الأصدقاء الذين لم يتوقعوا هذه التحية وهذا الإجلال.
فرويند كان مقاومًا فرنسيًّا وكاثوليكيًّا متدينًا له تاريخ مشرف جدًّا فى النضال الوطنى الفرنسى، ولكنه كان الصديق المقرَّب لفقيه دستورى ألمانى وكاثوليكى عظيم سقط سقطة كبيرة عندما قبل العمل مع النازيين وألّف بعض الكتب وكتب بعض المقالات المروّجة لفكرهم الكريه الحقير، وقاطعه الجميع حتى وفاته مع استثناءات قليلة أهمها فرويند. واليوم أعيد الاعتبار إلى أعماله الجيدة وهى كثيرة وتدرَّس فى كليات القانون والسياسة والفلسفة، ويحللها كبار المفكرين من اليمين والوسط واليسار، سواء تمتعوا بخلفية قانونية أم لا.. عن العملاق كارل شميت أتحدث.
يُحسب لفرويند أنه ترجم إلى الفرنسية أعمال بعض المفكرين الألمان المهمّين مثل ماكس فيبر، وطبعًا كارل شميت، وله عدد من المؤلفات الهامة مثل «جوهر السياسة» و«الانحطاط/ الأفول» وهو كتاب صدر سنة 1984 وقال فيه فرويند إن فرنسا دخلت مرحلة الأفول والانحطاط. لم يكن أول من يفعلها، أستاذه ريمون أرون قالها قبله بسنوات عندما أصدر سنة 1977 كتابًا عنوانه «دفاعًا عن أوروبا المنحلة/ المنحطة»، ولكن كتاب آرون لم يقابَل بعاصفة من الرفض، والفارق فى القبول مفهوم حيث إن فرويند تحدّث عن بعض سمات المجتمعات الأوروبية التى يحسبها الأوروبيون من نقاط قوتهم وقال إنها مظاهر وأعراض لا تخطئ تدل على انحلال المجتمع ودخوله مرحلة الأفول.
يقول فرويند، فى بداية كتابه، إن سؤال الانحطاط والأفول ليس- على عكس ما يدّعيه بعض المؤرخين- سؤال ابتكره التنوير الغربى ولا يعتبر الوجه الآخر والمكمّل لسؤال التقدم والتنوير، السؤال قديم وإن تغيرت المصطلحات المستخدمة، هو قضية تناولها الفلاسفة الإغريق الكبار أفلاطون وأرسطو عندما ناقشا مآل الأنظمة السياسية، ثم تعرَّض لها المؤرخ بوليبوس ونظر لها ووصفها بالتفصيل ورصد آلياتها، وبعدها بقرون أصبح السؤال حديث مفكرى وساسة روما قبل ظهور المسيحية بمائة عام وبعدها. وتعددت الاجتهادات؛ بين من يقول بحتمية هذه الظاهرة، ومن ينسبها لأخطاء يمكن تفاديها، ومن يربطها بفكرة علامات الساعة ومن يؤطرها فى مفهوم الدورات…
يتبع
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية