الانتخابات الرئاسية الفرنسية (1)
مع اختيار اليمين الجمهورى لمرشحته للرئاسة، السيدة فاليرى بيكريس، تحددت ملامح خريطة الانتخابات الرئاسية الفرنسية التى ستجرى فى أبريل المقبل.
الخريطة الانتخابية تتمتع فى فرنسا بثبات نسبى منذ النصف الثانى من الثمانينات رغم اختلاف النتائج من انتخابات لأخرى، فاليمين يتمتع بأغلبية شعبية واضحة وتزداد. ولكن اليمين يخسر أحيانًا كثيرة الانتخابات لأنه ليس هناك يمين واحد، بل أصناف شتى من اليمين، ولأن قادته يكرهون بعضهم البعض ويدبرون المكائد ويفجرون الفضائح ضد بعض.
اليمين أصناف، لا أظن أن التصنيف التقليدى له ما زال قادرًا على شرح الخريطة ولكننى أذكره، شرح لجذور التيارات الفكرية، تاريخيًّا بعد الثورة الفرنسية وإلى نهاية الستينات، وربما نهاية السبعينات، كان اليمين ينقسم إلى ثلاثة تيارات؛ التيار الرجعى المعادى للثورة الفرنسية ومبادئها، التيار البونابرتى المؤمن بالزعيم القوى القادر على حشد الأمة وإدارة التوازنات بين الطبقات، ويمين يطلق عليه “أورلياني” جامع بين الاحتفاظ بالملكية والاعتراف بمبادئ الثورة الفرنسية فى خليطٍ يشبه كثيرًا الوسطية الليبرالية.
من الناحية الحزبية هناك يمين متطرف، ويمين جمهوري، وأحزاب يمين الوسط. من الناحية الثقافية هناك يمين عنصري/ قومى متشدد، يمين ليبرالى فى الاقتصاد وفى الحياة الاجتماعية، يمين دولتي، يمين بونابرتى (يؤمن بالزعيم القوى المخلص)،يمين مسيحى محافظ، يمين مسيحى اجتماعى.. إلخ، وينقسم اليمين إلى أنصار السيادة لدولة وطنية قوية لا تتنازل عن أجزاء من سيادتها للاتحاد الأوروبى وتحدّ من الآثار المدمرة للعولمة، وأنصار المشروع الأوروبي، بين أنصار دور كبير للدولة فى إدارة الاقتصاد وأعداء هذا الدور، أنصار العلمانية ومفهوم ثقافة مركزية جامعة للكل/ مفروضة على الكل، وأنصار التعددية الثقافية التى تعترف بالخصوصية الثقافية لمكونات الأمة ولكنها تضعف الرابط الوطنى إضعافًا قد يكون قاتلًا،
من زاوية علم الاجتماع الانتخابى، اليمين له جمهوران، فئات شعبية- الفلاحون وصغار التجار مثلًا، وفئات ميسورة، الرأسماليون الكبار والمتوسطون، الكوادر العاملة فى شركات كبرى.. المحامون والأطباء، ولكنه لا يحتكر أصوات الطبقات الميسورة إن وجد مرشح ينتمى إلى وسط اليسار أو إلى يسار متصالح مع الرأسمالية.
هذا التنوع يفسر فوز اليسار بالانتخابات أحيانًا، هناك فصائل من اليمين قد تفضل المرشح اليسارى على المرشح اليمينى المعبر عن تيارات لا تعجبه ويخشاها، ويظهر جليًّا الصعوبات التى تواجه مرشح اليمين الجمهوري، منذ بداية الألفية الفئات الشعبية أصبحت تفضل مرشح اليمين المتطرف، العنصرى القومي، ومن ناحية أخرى من الصعب إيجاد صيغة ترضى كل أو أغلب المكونات الثقافية لليمين. المهمة ليست مستحيلة فنجح فيها الرئيس الأسبق ساركوزى فى انتخابات 2007 ولكنه عجز عن تكرار هذا الإنجاز فى انتخابات 2012. وفى المرتين حاول مخاطبة اليمين الشعبى المائل إلى البونابرتية وإلى الدولتية دون خسارة اليمين الميسور، لتحجيم اليمين المتطرف، ونجح مرة وفشل فى الثانية.
هذا الوضع يفسر لنا ما قد يبدو عجيبًا فى هذه الانتخابات، مرشح اليمين الجمهورى يملك فرصًا طيبة فى الفوز بالانتخابات إن وصل الجولة الثانية، وهذه الفرصة تزداد إن كان اليسار مفتتًا كما هو الآن، ولكن المشكلة أن الوصول إلى الجولة الثانية أمر بالغ الصعوبة، ومرشح اليمين المتطرف يواجه المشكلة العكسية، فلا فرص له تقريبًا فى الفوز فى الجولة الثانية، ولكن قاعدته الأساسية الشعبية قد تضمن له الوصول إلى الجولة الثانية.
ولكن الوضع انقلب فى الأسابيع الماضية، مع انقسام فى اليمين المتطرف، وتقدم أكثر من مرشح ينتمى إليه، تقليديًّا القاعدة الانتخابية لمارين لوبن تضم عنصرين، عنصر شعبي، وله مطالب منها مواقف حادة من العولمة ومن الاتحاد الأوروبي، وأصحاب المعاشات المستائين من الوضع الحالى- غياب الأمن وازدياد نشاط الإسلام السياسى. المشترك بين العنصرين رفض الهجرة والانقسام بينهم منبعه الموقف من اليورو.
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية