خواطر مواطن مهموم (117)

خواطر مواطن مهموم (117)
توفيق اكليمندوس

توفيق اكليمندوس

4:24 ص, الأحد, 5 ديسمبر 21

رأفة بالمسئول

من يقول إن العمل العام عبادة لا يدرى كم هو على حق، ولا يدرى حجم المسئوليات التى يتحملها من له منصب، وكم هو مجبر على مخاطبة فئات مختلفة؛ كل واحدة وفقًا لمنطقها، مع شرح منطقه هو ومنطق الجهة التى يعمل بها، وربما مع تفضيل أو وجوب عدم شرحه، وكم قرارًا يوقّع المسئول عليه فى اليوم، وكم فخًّا يُنصب له من قِبل منافسيه وخصومه ومن قِبل البيروقراطية، وكمّ الحملات الإعلامية التى تطوله هو وعائلته.. ولا سيما إن كانت الموارد محدودة، وهذا هو الأصل. موارد محدودة تعنى ضرورة ترتيب أولويات، وترتيب أولويات يعنى إغضاب فئات.

ثم لا حل ولا أسلوب إدارة ينال رضا الجميع، إنْ نزل الميدان ليتعرف على حقيقة الأوضاع بنفسه قيل إن مكانه فى مكتبه لتسيير الأعمال اليومية، إن ظل فى مكتبه سيقال إنه منعزل وإنه آخِر من يعلم، وهلم جرًّا، وطبعًا ويلٌ له إن قام بتدابير وإجراءات تتصدى لأصحاب مصلحة لهم نفوذ.. وتواجهه أيضًا مشكلة اختيار مساعديه أو معاونيه، إن اختار من يعرفهم، ومن ثم من يستطيع الحكم على كفاءتهم سيتهم بتفضيل العلاقات الشخصية، وإنْ فضّل طريقًا آخر- اختيار الأقدم أو المزج بين مقارنة السير الشخصية وإجراء مقابلات مع بعض المرشحين- قد يصيب أو يخطئ.

نأخذ مثالًا لعمدة فى مدينة أوروبية تعرضت فجأة لعاصفة ثلجية، اتضح أن المدينة لا تملك الأدوات والمركبات اللازمة وكاشطة الثلج للتعامل معها، ولم يكن أحد مدربًا على مواجهتها، وشن الإعلام هجومًا شديدًا على “تقصيره”.. لم يقنع دفاعه عن نفسه أهالى مَن ماتوا والرأى العام، ولكن الدفاع كان وجيهًا.. تكلفة الأدوات والمركبات والكاشطة الضرورية تُقدَّر بعشرات الملايين، والمدينة لم تشاهد سقوط الثلج منذ سبعين سنة، لو كان العمدة قام بتخصيص عشرات الملايين تحسبًا لحادثٍ لا يحدث أبدًا لاشتبه الإعلام فيه وفى كفاءته وفى ذمته..

فى دولة أخرى عُيّن شخص على رأس مصلحة لها مبانٍ فى كل أنحاء الدولة، مبانٍ يتردد عليها الجمهور، وثلث المبانى فى حالة سيئة جدًّا وتتطلب ترميمات وإصلاحات عاجلة منعًا للكوارث، ولكن الميزانية لا تكفى لهذا، ولا يستطيع المسئول ادعاء أنه لا يعلم، فنواب مجلس الأمة يلاحقونه يوميًّا، الكل يتحدث عن حال المبانى الموجودة فى دائرته، طالب المسئول بزيادة الميزانية، قيل له إن طلبه مُبالَغ فيه، وعلى العموم سيتم النظر فيه عند تحضير ميزانية العام الجديد.. فضَّل الرجل الاستقالة.

فى دولة ثالثة، رئيس الوزارة يتناول العشاء عند صديق، الذى دعا أيضًا طبيبًا كبيرًا، الطبيب الكبير يشرح للسياسى تبعات قرار كارثى اتخذه وزير الصحة لحماية مصانع الأدوية والأجهزة الطبية الوطنية، الشهر السابق، فى اليوم التالي- أول أيام العمل فى الأسبوع يصدر رئيس الوزراء قرارًا يلغى قرار وزير الصحة ويسمح باستيراد الجهاز الطبى الأجنبى.. وهذا القرار لم ينفَّذ بسرعة؛ لتعقيدات بيروقراطية ولضغوط لوبى.. وعندما تنفجر الفضيحة ويتضح أن خطأ وزير الصحة والتأخير فى إصدار القرار اللاغى لخطأ وزير الصحة وفى تنفيذه- تسبّب فى وفاة مئات الأطفال وفى إصابة الآلاف بمرض لعين.. اتهم الإعلام رئيس الوزراء بالتقصير.. رغم أنه تصرَّف أول ما سمع عن الكارثة.. وتمّت محاكمة رئيس الوزراء محاكمة قاسية وإن انتهت بتبرئته.. ولكن التبرئة جاءت بعد سنوات من المحاكمة.

وأتكلم عن الوظائف العادية، ولكن أصعب وضع هو وضع رئيس السلطة التنفيذية؛ رئيسًا كان أم ملكًا أم رئيس وزارة، فهو صاحب الأمر، فهو- حتى فى الدول التى ألغت عقوبة الإعدام- يملك عادة حق تحريك القوات، والطلب من أفرادها قتل أعداء الوطن أو الاستشهاد، ولا يعلم صعوبة قرار الحرب إلا مَن وجد نفسه فى موقع صاحب القرار فى هذا الشأن.

* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية