خواطر مواطن مهموم (114)

خواطر مواطن مهموم (114)
توفيق اكليمندوس

توفيق اكليمندوس

4:35 ص, الأحد, 14 نوفمبر 21

المخاطر والتهديدات الآتية من الجنوب ومن الشرق (3)

هناك نقطة بديهية ينساها كمٌّ غريب من المثقفين والخبراء٬ ولا ينساها الجمهور؛ وهى أن علاقة الصداقة تحتاج إلى موافقة ومجهود الطرفين٬ بينما لا تحتاج علاقة العداوة إلا لقرار منفرد من طرف واحد.

إن قررت أن أكون صديقك فلن أستطيع أن أكون كذلك إن لم تكن موافقًا، بينما لا أحتاج إلى موافقتك لأعتبرك عدوًّا لي٬ فلا ينتظر الطرف المُعادى أو المعتدى موافقة المعتدى عليه، ليشن هجومه وليمارس سياسته العدوانية.

مصر لأسباب كثيرة لا تريد أن تعادى أحدًا٬ لن نتكلم كثيرًا عن طباعنا المسالمة المنفتحة على الغير التى قد تحب وصلات الردح ولكنها لا تحب الدم٬ كل هذا الكلام له نصيب كبير من الصحة، ولكنه يحتمل استثناءات٬ فالمصرى مقاتل شرس ومتمكن، ولا سيما إن أحس بأن قضيته عادلة٬ سنقول إننا لا نريد أن نعادى أحدًا لأننا نخوض يوميًّا معركة بناء، بل معركة عدم غرق تتطلب جهودًا جبارة٬ وتركيزًا شديدًا٬ ولأننا- بحكم زيادتنا السكانية- نستورد طعامنا، ومن ثم نحتاج إلى تصدير ما يسمح بدفع فواتيرنا٬ بحكم زيادتنا السكانية نحتاج إلى خلق عدد مهول من الوظائف، وهذا يتطلب استثمارات محلية وأجنبية، ونعلم كلنا أن رأس المال حريص إن لم يكن جبانًا٬ أحد مصادر دخلنا السياحة٬ باختصار نحتاج إلى سلام وتجارة واستثمار، شئنا أم أبينا.. شرسين كنا أم مسالمين.

لا نستطيع طبعًا استبعاد خيار الحرب استبعادًا نهائيًّا٬ من ناحية أضمن طريق لاستبعاد خيار الحرب هو أن تكون جاهزًا لها غير خائف منها٬ ومن ناحية أخرى شح الموارد؛ ولا سيما المائية، قد يدفعنا إلى ما لا نرغب فيه.

لكن هناك من يعادينا ولا يحترم روابط الأخوة والجوار والمصير المشترك٬ المفارقة فى وضعنا الحالى أن الدولة التى لا يحبها الشعب المصرى وهى إسرائيل تدرك قوتنا٬ وتعلم بحكم التجربة التاريخية أننا قادرون على التغلب على كل المصاعب وعلى الإجادة وإن كانت إجادة مؤقتة استلزمتها الضرورة٬ ومن ثم هى حريصة رغم قوتها العسكرية والتكنولوجية الكبيرة على عدم إغضابنا ما دام لم يكن هذا ضروريًّا من وجهة نظرها٬ وتفضل إدارة العلاقة معنا إدارة هادئة- قلت هادئة ولم أقل مسالمة.

من يعادينا هم إثيوبيا من ناحية وبعض فصائل السودان وبعض الدول- ليست كلها- التى تدور فى فلك الإخوان المسلمين أو التى تتبنى مشروعات إمبراطورية تبدو مجنونة للطرف المحايد٬ وهناك دول صديقة ولكنها مناوئة فى بعض المراحل تساعدنا فى فترات حرجة وفترات ضعفنا مساعدة سخية وعظيمة لم ولن ننساها ولكنها تتصرف أحيانًا وكأنها تخشى نهضتنا أو كأنها ترى فينا منافسًا، ونحن لسنا كذلك- نرى أن قوتها من قوتنا، وضعفها من ضعفنا، ومصيرنا مشترك. كلامى هذا ليس عاطفيًّا فقط، بل مبنى على حقائق مصادر قوتهم وقوتنا، ونقاط ضعفهم وضعفنا.

هذا الوضع العام لا يسعد فأدرك مثلًا مزايا علاقات طيبة مع تركيا٬ ولا أقلل من شأنها٬ وأتمنى أن تعود العلاقات إلى طبيعتها٬ مع إدراكى طبعًا لكون مصالحنا فى المشرق تتعارض ومصالحها أيًّا كان شكل نظام الحكم فى أنقرة٬ ولكن رئيسها قرر معاداتنا ولم يحترم أية حدود فى مسلكه ولا فى أقواله، ولم يهدأ نسبيًّا إلا بعد خطاب السيد الرئيس الصارم الخاص بخط سرت/ الجفرة. ومما يزيد من غضبي- وغضب غيرى من المصريين فيما أظن- هو أنه لا يوجد أى سبب حقيقى لهذه العداوة والعدوانية.

والوضع فى الجنوب أشد خطرًا؛ ففيه يمتزج التعارض الحاد والحيوى فى المصالح والضغائن التاريخية والتهديدات الواقعية٬ القضية الرئيسة هى طبعًا قضية الماء ونهر النيل، ولكن مخاطر انهيار الدولة الإثيوبية والهجرة التى قد تترتب عليها لا يجوز الاستهانة بها٬ ونتناول هذا فى المقال المقبل.

* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية