خواطر مواطن مهموم (112)

خواطر مواطن مهموم (112)
توفيق اكليمندوس

توفيق اكليمندوس

6:05 ص, الأحد, 31 أكتوبر 21

المخاطر القادمة من الجنوب (ومن الشرق) 2

قرأت مؤخرًا كلامًا يرى أن الحكمة تقتضى إجراء اختبارات نفسية على من يريد قيادة دولة، وطبعًا فكرة الاختبارات تفترض أن الشعوب غير قادرة على التمييز بين المجنون والعاقل؛ لأنها نفسها مجنونة أو متعددة العاهات النفسية، وقطعًا الأنظمة الاقتصادية السائدة القائمة على التنافس الشديد والتغير التكنولوجى السريع وعدم ضمان المستقبل القريب يؤثر سلبًا على الصحة النفسية لقطاعات كبيرة من كل الشعوب، مهما كانت عراقتها وإيمانها. وفى العقد الماضى وصل إلى كرسى الحكم فى دول متقدمة مَن يعانون عُقدًا نفسية تؤثر سلبًا على أدائهم.

ما علينا، فكرة الاختبار سخيفة؛ لأنه من المستحيل حسم مسألة “مَن يختبر مَن” بطريقة معقولة تضمن قدرًا من العدالة ولأننا كلنا عاديون فى شق، وذوو عاهات وعُقد فى شق آخر، ومن ثم فالفكرة مرفوضة، ولكنها حركت فيّ مشاعر أكثر تعقيدًا من مجرد الرفض، ووجدتُ نفسى أريد إجراء اختبارات على قادة العالم الديمقراطى أساسًا، وعلى غيرهم؛ لمعرفة قدرتهم على قراءة خريطة. سبب الفكرة الغريبة هو أننى أمضيتُ شهرًا أبحث فى مشكلة الساحل والصحراء، وأدركت دور القرار الغربي- الفرنسى أساسًا- بإسقاط حكم العقيد القذافى فى انفجار مشكلة الساحل والصحراء التى تهدد عددًا كبيرًا من دول أوروبا وإفريقيا، وقطعًا كان لهذا القرار دوافع عديدة، بعضها أو الكثير منها نبيل، ولكن الإلمام بمبادئ الجغرافيا كان مفقودًا عند أهم قادة الغرب وكان يحتّم قدرًا من التروّى. وبالمناسبة كنتُ تحدثتُ فى مقال سابق قائلًا إن أهم إنجاز المستشارة الألمانية ميركل هى عدد الحماقات التى لم ترتكبها ورفضت أن تشارك فيها، وهذه واحدة منها.

أقول بسرعة لكى لا نضيع وقتًا فى مناقشات جانبية إننى أمزح عندما أتحدث عن اختبارات جغرافيًّا، ولا أمزح عندما أقول إن هناك مشكلة كبيرة إن كان قائد الدولة غير مُلمّ بمبادئ الجغرافيا السياسية، وأضيف أن عددًا كبيرًا من خبراء الغرب بارعون فى تأليف نظريات خاطئة، ولكنها تتفق وما يتصورون أنها مصالح بلادهم، أو فى تحديد مصالح بلادهم لتتفق وتتسق وتلك النظريات الخاطئة التى يروجون لها. ومن أبرز هذه النظريات العجيبة أن تطور التكنولوجيا ومسار الرأسمالية المعولمة قضيا على حاجتنا إلى الجغرافيا السياسية.

فى الواقع طورُ الرأسمالية الحالي، التى أصبحت عالمية بعد أن كانت وطنية، عقّد عملية حساب المصالح ودور الجغرافيا السياسية، ولكنه لم يلغهما، فهذا الطور أكثر من الحالات التى يوجد فيها تعارض بين المصالح الاقتصادية والمصالح الأمنية، والتطور التكنولوجى لم يغير أهمية الجوار الجغرافى فأسهل طريقة لنقل الجنود ما زالت الطرق البرية والسكة الحديد.

الجغرافيا تقول إننا دولة مركزية محورية؛ أو على الأقل تمسك مفاتيح هامة فى خطوط الاتصال الرابطة بين القارات الثلاث إفريقيا وآسيا وأوروبا، ومفتاحًا هامًّا لكل التجارة العالمية؛ وهو قناة السويس. وكدولة “محورية” قد يأتى الخطر من الشرق والغرب والشمال والجنوب، ولأسباب تاريخية وثقافية وأخرى متعلقة بموازين القوة، اعتدنا اعتبار الشمال والغرب مصدرى الخطر الرئيس، وإن جاءا من الشرق، ترى أغلبية من المصريين أن إسرائيل دولة غربية زرعت نفسها أو زُرعت على حدودنا الشرقية، وهى جار قوى جدًّا ومتقدم ويمتلك سلاحًا نوويًّا، والاستعمار كان غربيًّا، وفى العقل الباطن للكثيرين منا تصورٌ مفاده أن علينا إثبات جدارتنا للغرب وأنها واضحة لدول عالمنا الثقافى. نحن الشقيقة الكبرى والدولة الرائدة… إلخ.

لا أنتمى إلى الفِرق التى ترى أن مصر دولة غير عربية وغير إفريقية وغير جنوبية، وأن فرعونيتها أهم من إسلامها، وإن كنت أشجب التقليل من شأن الرابط المتوسطي، ولكننى أرى أن إسلامنا وعروبتنا وإفريقيتنا يمنعون الكثيرين منا من رؤية ما أصبح واضحًا… أن مخاطر كبيرة مصدرها الجنوب وتركيا.

* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية