خواطر مواطن مهموم (111)

خواطر مواطن مهموم (111)
توفيق اكليمندوس

توفيق اكليمندوس

6:11 ص, الأحد, 24 أكتوبر 21

المخاطر الآتية من الجنوب

لست من خبراء الشئون الإفريقية، وعلاقتى بقضايا القارة هى علاقة أى مواطن مصرى، يضاف إليها أننى أقوم حاليًّا فى إطار عملى بتحضير دراسة عن قراءات الفرنسيين لملفات الساحل والصحراء، وأننى أتحاور كثيرًا مع اثنين من فطاحل الدراسات الإفريقية فى مصر.. وطبعًا أنا مسئول عن هذا المقال وكلامه غير المنضبط.

مصر اعتادت أن تصنف نفسها كدولة جنوبية وأثر هذا على رسمها سياستها الخارجية، وهذا التصنيف له ما يبرره، فالاستعمار جاء من الشمال، والقوى المهيمنة على النظام العالمى كانت لفترة طويلة قوى شمالية، ودين أغلبية المصريين قديم الجذور فى دول الجنوب، حديث العهد والتواجد فى دول الشمال- أو هكذا بدا لنا لأن الحقيقة غير ذلك، فالإسلام موجود فى شرق أوروبا وفى روسيا منذ مئات السنوات. لكن هذا التصور دعمه تعريف الغرب لنفسه بأنه حضارة ذات أصول وجذور مسيحية يهودية.

ولا إراديًّا ننسب لأنفسنا الخصال والعيوب التى تُلازم الجنوب فى التصورات السائدة، ونعتقد أن الخصال والعيوب الملتصقة بمفهوم الشمال ليست خصالنا ولا عيوبنا. نحن سمر، دمنا خفيف متدينون بالفطرة ضعفاء فقراء متخلفون، أعداء أى نظام وأى تفكير علمى، أساتذة فهلوة، وكل ما يهددنا آت من الشمال.. فى هذا المضمار يرى أغلبنا إسرائيل «ربيبة الغرب».

ولا نقول إن هذا التصور خاطئ تمامًا، ولكنه يتجاهل ما يناقضه الجلد المصرى هو أحد أسباب نصر أكتوبر وقدرة البلاد على البقاء واقفة صامدة رغم صعوبات مهولة، الطبقات الوسطى المصرية تصدر لكل المنطقة وللعالم أطباء ومهندسين وعلماء، أبناء هذه الطبقة يبذلون مجهودًا فى العمل لا يبذله الغربيون، المؤسسة العسكرية المصرية مؤسسة عريقة منضبطة تحكم بضوابط عقلانية علمية صارمة، الخارجية المصرية عريقة وصاحبة مدرسة فى السياسة الخارجية لا يمكن أن توصف بأنها متخلفة، وهناك مؤسسات كثيرة تنتمى للقطاعين العام والخاص تعمل بنظام وتخطيط، المصرى متدين ولكنه أيضًا علمانيّ وإن لم يدرك هذا.

سيقول القائل إن الاعتبارات الشخصية تلعب هنا دورًا لا تلعبه فى الدول الغربية، وأن المصرى يكره تطبيق القانون، وأن عدد المصريين المفضِّلين للتفكير الغيبى على التفكير العلمى مهول، وأن علاقة المصرى بالثقافة الرفيعة ليست كعلاقة الغربى، وسأردّ بأننى لم أقل إن الصورة النمطية خاطئة تمامًا، وبأنكم لا تعرفون المجتمعات الغربية، فهى ليست كما تعتقدون.

الغرض من هذا الكلام ليس تحديد نسبة انتسابنا للجنوب، ونسبة انتسابنا للشمال، الغرض من هذا الكلام تحذيرنا من تأثير التصورات النمطية المسكوت عنها، على سلوكنا وسياساتنا؛ لأن التصورات تكشف دائمًا عن وجه للحقيقة وتخفى وجهًا آخرـ والغرض منه أيضًا أنه يتعين علينا أن نتذكر أن هناك على الساحتين الإقليمية والدولية من يرانا ومن يتعامل معنا على أساس أننا من الشمال، وأن وجهة نظره ليست خالصة الخطأ ولها تبِعات علينا.

لن أتوقف كثيرا أمام لون البشرة، هناك من يرانا بيضًا وليس سمرًا، أفضل تذكير القارئ بأن مصر امتلكت إمبراطورية؛ كوننا لم نعمل على تشكيل وعى إمبراطورى، ولا معارف إمبراطورية، ولا أنماط دائمة من الفعل والتفاعل الإمبراطوري- لا يعنى أننا قادرون على نفى التهَمة. هناك من يرانا مستعمِرين- بكسر الميم- وينتظر منا الكثير ويلقى علينا اللوم بسهولة ويستنجد بنا ويحبنا ويكرهنا. هذه واحدة.

ومن ناحية أخرى حققت مصر فى السنوات الثلاثين الماضية طفرة هائلة، رغم الفقر المدقع الذى ما زال منتشرًا، مصر دولة لها حدود طبيعية لم ترِثها من الاستعمار، مصر بها أدوات الحداثة وما بعد الحداثة، مصر مجتمع نسبيًّا متماسك، مصر نسبيًّا آمنة، مصر شعب أصوله الإثنية متنوعة، ولكنه شعب وليس تجمُّع إثنيات. مصر دولة ملاذ آمن لمن يهرب من جحيم فقر وحروب وفتن الجنوب.

(يتبع)

* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية