خواطر مواطن مهموم (110)

خواطر مواطن مهموم (110)
توفيق اكليمندوس

توفيق اكليمندوس

5:27 ص, الأحد, 17 أكتوبر 21

عن الفساد فى الحياة السياسية والاجتماعية فى أوروبا

سمعت وقرأت لأصدقاء قالوا إن طهارة يد المستشارة السياسية ميركل “طبيعية”، وأن الأمانة المالية هى الأصل فى الدول المتحضرة٬ واستغربوا من تقديرى لهذه السمة وإعجابى بها٬ وتساءلوا هل هذا أسلوب لئيم منى لأوحى للقارئ بأنْ لا إنجازات لميركل.. وتصوروا أن هذا المديح سم فى العسل٬ كأنك تقول عن منافس لك إنه “مجتهد”، وهى كلمة لا تعنى شيئًا، أو على أحسن الفروض تعنى “حسَن النية” أو “عبيط”.

الواقع أن الطهارة المادية أصبحت عملة نادرة وتعنى الكثير٬ وعدم التورط فى سوء استخدام النفوذ عملة نادرة وتعنى الكثير؛ لأنهما يؤثران إيجابًا على سمعة القائد وحزبه والنظام والدولة٬ ولأنهما يحثّان أبناء الدولة والمجتمع على الإجادة؛ لأنهما يخلقان انطباعًا بأن الإجادة هى معيار الترقية والنجاح. الصورة الحقيقية أكثر تعقيدًا لأسبابٍ سأذكر بعضها، ولكن شيوع هذا الانطباع ضرورى.

الصورة أكثر تعقيدًا لسبب؛ وهو صعوبة وضع قواعد- قانونية أو غير قانونية- صارمة تكون عادلة فى كل حالة ومكان وزمان. أعطى مثالًا أقتبسه من تاريخ الحروب٬ لقد مُنى القائد فلان بهزيمة قاسية نتيجة أخطاء فادحة فى رسم الخطة وتنفيذها بسبب خطأ المعلومات٬ ولكن رئيسه.. أعظم رؤساء الولايات المتحدة قدر أن هذه كبوة قد تحدث لأى أحد٬ وأن القائد المهزوم يريد أن يثبت أن ما حدث كان استثنائيًّا٬ وأنه رغم غله وشغفه للانتقام لم يفقد توازنه وقدرته على حسن تقدير الأمور٬ وقرر منحه فرصة أخرى٬ وثبت صدق حدس الرئيس. ولكم أن تتخيلوا حكم التاريخ لو كان القائد العسكرى مُنى بهزيمة نَكراء ثانية.

تأمل مسألة الترقية٬ إن وضعت مبدأ عامًّا٬ مثلًا الترقية بالأقدمية٬ لا تستطيع أن تضمن أن الذى ترقّى له الكفاءة المطلوبة٬ ولا سيما إن كنا بصدد قمة الهرم الإداري٬ فالكفاءات المطلوبة فى موقع الرجل الثانى غير الكفاءات اللازمة للنجاح على قمة الهرم. وإن تركت سلطة تقديرية للقائم على الأمر قد يُحسن استخدامها، وقد يسيء.

الفساد موضوع معقَّد. دعونى أقصّ عليكم واقعة حدثت فى جامعة فرنسية٬ أستاذ مرموق له طالب موهوب٬ الأستاذ احتاج إلى مُعاون، وقَبِل تطوع الطالب لمساعدته فى عمله٬ وكان مفهومًا- لأن هذا النمط من العلاقات شائع جدًّا- أن مكافأة الطالب ستكون تعيينه فى السلك الجامعى فى الكلية بعد إنهائه ومناقشته رسالة الدكتوراه وحصوله على إجازة التدريس كمُحاضر. بعد سنوات جاء دور الطالب للتعيين. وأعلنت الجامعة بحثها عن مُحاضر له تخصص نادر هو تخصص الطالب، مُحاضر فى مرحلة عمرية معينة هى مرحلة عمرية الطالب، يجيد لغات معينة وهى لغات يجيدها الطالب٬ أى أن الجامعة “فصّلت” مواصفات المرشح على مقاس الطالب!

وحدث ما لم يكن فى الحسبان٬ تقدَّم مرشح من مدينة أخرى واتضح أنه المرشح المثالي٬ نفس التخصص النادر، نفس المرحلة العمرية ويجيد نفس اللغات٬ وكان واضحًا أن المرشح المفاجأة أقوى بكثير من الطالب المعاون للدكتور المرموق٬ وفى الاجتماعات التى بحثت التفضيل بين المرشحين قال الأستاذ المرموق : من واجبى حرصًا على المصلحة العامة أن أدعوكم إلى انتخاب الوافد على حساب ابن الكلية٬ ولكننى لا أستطيع أن أفعلها لأننى مَدين لابن الكلية بالكثير٬ فسأعطى له صوتى رغم اقتناعى بأن الوافد أفضل. وقد تم فعلًا اختيار الوافد وتعيينه.

المفروض أن المداولات سرية ولكن هناك دائمًا “عصفورة” وعرف كل أبناء الكلية ما حدث وكيف أوصى المرموق باختيار مرشح غير تلميذه الوفيّ٬ فأصبح المرموق منبوذًا٬ ورفض الطلاب تسجيل رسائل معه٬ وقاطعوه٬ ودفع ثمن هذا الموقف. تأملوا القصة٬ المرموق فضَّل مصلحة الجامعة٬ وأدان الجميع تصرفه٬ ونفس الذين أدانوا كانوا سينتقدون موقفه ويتهمونه بالفساد إنْ كان تمسّك بتعيين طالبه.

* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية