خواطر عن ميركل وتبعات فساد النخب
أكتب هذا المقال بعد محادثة تليفونية مع صديقى الصدوق الفرنسى، تناولت أحوال فرنسا والحملة الانتخابية، وذكرنا المستشارة الألمانية بطريقة عارضة. فى إطار السخرية من المعلّقين السياسيين الفرنسيين قال لى صديقى.. مثلًا هؤلاء اعتبروا ميركل أعظم مستشارى ألمانيا، وأجمعوا على هذا، ولكنهم عجزوا كلهم بلا استثناء عن ذكر إنجاز واحد لميركل. وقلت معقبًا: وليتها لم تفعل شيئًا.. عندما تحركت اتخذت قرارات خاطئة. فقال الصديق: قرارات خاطئة، ولكنها تثير إعجاب المعلّقين.. وسخرنا من قرار الاستغناء عن النووى كمصدر للطاقة..
حديث صديقى لخص لغز ميركل.. لا يمكن نسب أى إنجاز لها.. حتى الازدهار الاقتصادى الذى ميّز عصرها مصدره وسببه إصلاحات سلفها شرودر القاسية، ويمكن تفسير تأييد ميركل لها وهى زعيمة معارضة، بأنه مزيج من الإحساس بالمسئولية الوطنية ومن المكيافيلية السياسية.. هذه الإصلاحات ضرورية، ولكن الشعب يرفضها، إنْ أجّل شرودر الإصلاحات فسنضطر نحن إلى فرضها عندما نصل إلى الحكم وسندفع كلفتها السياسية، نترك خصمنا يتخذ هذه القرارات المرفوضة شعبيًّا، ويدفع ثمن هذه الشجاعة السياسية، ويخسر الانتخابات، ثم نجنى ثمار هذه الإصلاحات ونحن فى الحكم.
لا أريد “تدمير” صورة المستشارة، ولن أتأخر كثيرًا فى إجراء مقارنة بين أخلاقها الرفيعة وأخلاق شرودر الذى قبِل وظيفة راتبها عال فى روسيا بوتين بعد هزيمته فى الانتخابات، وفى تأمل المفارقة.. أيهما كان أفيد لألمانيا.. ولكننى أريد لفت نظر القارئ إلى صعوبة تقييم أخلاق الفاعل السياسى ميركل- والكل يشيد بطهارة يدها وأخلاقها الرفيعة وإخلاصها فى الصداقة وتمتعها بروح فكاهية- صعدت إلى القمة بقيامها بعملية اغتيال سياسى لوليّ نعمها المستشار الألمانى هلموت كول المتورط فى فضيحة مالية للحزب. أى أنها فضّلت مصلحة حزبها ومصلحتها الشخصية على قيم الوفاء. أؤيدها فى هذا، ولكن ما أقصده أن ميركل ليست الملاك الطيب الطاهر فهى كأى سياسى ماهر تعرف كيف ومتى يتم قتل سياسى للصديق وللخصم.
لا أقصد أن لا أساس لشعبية ميركل، فهى نجحت فى تجنيب ألمانيا ويلات كثيرة، وكانت صلبة فى رفضها الانزلاق فى مغامرات غير محسوبة، فى مذكراته قال الرئيس الفرنسى السابق ساركوزى إنها كانت ترى فى البطء والتباطؤ وكسب الوقت ضمانًا لاتخاذ القرار السليم، بينما هو- ساركوزي- يرى فى السرعة وسيلة لانتزاع المبادرة وفرض تصوراته كمحور للنقاش والفصال ولمفاجئة الحلفاء والخصوم. تظهر مزايا مقاربة ساركوزى عند المقارنة بين أسلوبى الزعيمين فى التصدى للأزمات المالية التى ضربت اقتصادات العالم ثم اقتصادات أوروبا فى أواخر العقد الأول للألفية الجديدة، حيث لعب بطء ميركل دورًا فى بث الخوف فى الأوساط الاقتصادية الأوروبية، وتظهر عيوب مقاربة ساركوزى ومزايا منهج ميركل فى الأسلوب المتسرع المتهور الذى ميز تصدى الرئيس الفرنسى لأحداث ليبيا سنة 2011، حيث تسبب التدخل الفرنسى فى انهيار الدولة الليبية ودول الساحل والصحراء، فانهيار مالى سببه المباشر ما حدث فى ليبيا.. وهذا الانهيار لليبيا ومالى أوجد وضعًا كله تهديدات ومخاطر جسيمة لأمن كل من فرنسا وإيطاليا والبلقان ومصر والمغرب العربى والساحل والصحراء والخليج الغينى، إذ استولى الإرهابيون والمهربون على مخازن أسلحة الجيش الليبى، واستخدموا طرق ليبيا ومالى لنقل السلع المهرَّبة والمهاجرين غير الشرعيين إلى أوروبا وغيرها.
ويمكن القول إن ميركل جنّبت ألمانيا ويلات كثيرة ومغامرات لا لزوم لها، وأنها نجحت فى بثّ شعور بالطمأنينة فى نفوس الألمان، ولعبت خصال أخرى لميركل دورًا فى هذا، خلفيتها العلمية- لها دكتوراه فى الطبيعة- وعملها الدءوب وهدوء أعصابها، كل هذا أعطى انطباعًا بأن كل قراراتها ثمرة دراسات متعمقة ومبنية على أسس علمية، لكن لهذه الخصال ثمن نعرض له فى المقال المقبل، ليس أقله قتل هذه المقاربة للحوار والجدل الديمقراطى.
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية