انتهت مرحلة المستشارة الألمانية ميركل، وأجمع الرأى العام على تحية «ماما» كما يسمونها، وأشاد أغلب الألمان والكثيرون فى كل أنحاء المعمورة بها، وبسياساتها، وبتواضعها، وبطهارة يدها، وبأمانتها، وبسلامة نواياها، وبأخلاقها الرفيعة، وممارستها للعمل العام وكأنه عبادة.
ويثمن الكثيرون تركيزها على ذكر الحقائق، وعدم توظيفها لبعض خصالها – روحها الفكاهية وتدينها مثلا- لخداع الجماهير، عرف الناس أن لها هذه الخصال لأن بعض أصفيائها تحدث عنها، أما هى فتعمدت إخفائها لتفادى شخصنة غير مرغوب فيها.
المفارقة طبعا أن رفضها للشخصنة حبب الناس فى شخصيتها، وأن أخلاقها الرفيعة وسلامة نواياها وتقديسها لعملها من أسس شرعيتها الشخصية وشعبيتها المحلية والدولية، وهذه الصفات عظيمة فى كل عصر وزمان، ولكن تقدير الرأى العام لها ازداد فى عصرنا، الذى شاهد تنامى فساد النخب فى كل أو أغلب دول العالم بما فيها ألمانيا، وطهارة اليد والأخلاق الرفيعة من أسس شرعية الرئيس الأمريكى السابق أوباما، فيما يخصنى أظن أن ميركل صادقة لا تمثل وأعتقد أن أوباما مدعى وإن كنت أقر أنه طاهر اليد.
رأيى فى النوايا لا يهم، ما يهم أن الشعور بالامتنان والإعجاب بسمات ميركل و/أو أوباما الشخصية يؤثر بالسلب على حس وقدرات المراقبين والرأى العام النقدية، سلامة نوايا وجمال أخلاق ميركل لا يكفيان لتحويل الفسيخ إلى شربات، لميركل إنجازات كثيرة ولكن إخفاقاتها دفعت مجلة «زى إيكونوميست» إلى وصف حصاد حكمها بعنوان، الفوضى التى تركتها ميركل.
أبرز هذه الأخطاء هو قرار انفرادى للمستشارة بإلغاء الاعتماد على النووى كمصدر للطاقة والكهرباء، للإنصاف اتخذ هذا القرار فى ظروف استثنائية، فى الأسابيع التى تلت كارثة المفاعل النووى فى اليابان سنة 2011، حيث ساد الرعب فى عواصم عالمية، وجاء قرار ميركل رضوخا لضغط الرأى العام، ولكنه كان خطأ فادحا، اعتمد على حسابات ورهانات واضحة الخطأ حول مستقبل مصادر الطاقة البديلة، وخلفية ميركل العلمية تعنى أنها كانت تستطيع رصد عوار هذا الرهان… وكانت نتيجة هذا التسرع أن ألمانيا الراغبة فى الحفاظ على البيئة وعلى مقاومة الاحتباس الحرارى اضطرت إلى اللجوء الكثيف إلى الفحم وهو ملوث بامتياز، وأن ألمانيا تواجه اليوم أزمة طاقة غير مسبوقة، وأن تكلفة الكهرباء فى ألمانيا هى الأعلى فى أوروبا.
ويقابل كل وجه مشرق لسياساتها وجه مظلم… مثلا الانضباط المالى وحالة الرخاء التى عرفتها ألمانيا فى عصرها يقابلهما إهمال البنية التحتية وشبكة المواصلات وتأخر الإنفاق عليها والاستثمار فى تحسينها، وهذا خطأ ميركل، وجاء ليفاقم خيارات أسلافها… الرخاء والانضباط المالى كانا ممكنين لأن ألمانيا رفضت الإنفاق على جيشها واتبعت سياسات لا تشجع على الإنجاب، قلة عدد الأطفال معناه تقليل ميزانيات الصحة والتعليم والمصروفات على الطفولة، وأغلب الدول التى حققت معدلات نمو مرتفعة لجأت إلى مثل هذه السياسات المقللة لنسب الإنجاب، منها ألمانيا واليابان والصين، ولكن لهذه السياسات كلفة تظهر تدريجيا عندما ينقلب الهرم السكانى ويصبح المسنون أغلبية، فى ألمانيا عدد الوظائف الشاغرة كبير وتعتمد الدولة على جلب أبناء دول أخرى لسد الفجوة.
ميركل نشأت فى دولة شيوعية تنتمى إلى المعسكر الشرقى وأثر هذا على خصالها إيجابا وسلبا، هى باطنية تعلمت مبكرا ضبط كلامها وإخفاء مشاعرها، تجيد الروسية، تعرف قيمة الحرية، تتسامح مع دول أوروبا الشرقية باستثناء روسيا وتتفهم هواجسها، كل هذا إيجابى، لا تحب الفرنسيين ورؤسائهم، وترى فيهم وفى شعوب الجنوب جماعات من المبذرين وبالتالى تشك فى كل مقترحاتهم وطلباتهم، رغم أن بعضها وجيه.
من تبعات نشأتها السلبية كراهيتها للجدل وللصراعات الفكرية والأيديولوجية، وابتدعت أساليب للتوصل إلى حلول وسطى تمنع الاستقطاب بين أحزاب الحكم، نعرضها فى مقال الأسبوع القادم.
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية