ترتيبات الأمن فى منطقة المحيطين الهندى والهادى
أعتذر للقارئ العزيز إن خضت فى موضوع لا يدخل فى نطاق تخصصى.
من المعروف أن آخر 12 سنة شهدت انتقال الصين من مرحلة الكمون الإستراتيجى السامح بالتفرغ للبناء الداخلى إلى مرحلة التمدد وبناء الهيمنة فى مجال ما زال فى طور التحديد. هل هى تريد أن تهيمن على شرق آسيا أم على آسيا كلها أم على أوراسيا أم على العالم كله بما فيه أمريكا اللاتينية. ما هو واضح أنها تريد احتواء الولايات المتحدة وإبعادها تدريجيًّا عن مناطق نفوذها التقليدية وأن هدفها الرئيس خنق الهند.
ومن المعروف أيضًا أن الولايات المتحدة تريد نقل تمركزها العسكرى إلى منطقة المحيطين الهندى والهادى، وأن تحضر نفسها لحروب مع الدول الكبرى، وهى حروب تتطلب مهارات غير المهارات الضرورية فى محاربة ميليشيات الجهاديين أو فى قتال دائر داخل مدن.. ورغم مشاغبات روسيا الدائمة والمزعجة جدًّا فإن واشنطن تعتبر الصين المنافس الرئيس.
الفارق بين المواجهة مع روسيا والمواجهة مع الصين هو أن الأولى تتطلب تنمية القوات الجوية، والثانية تحتاج إلى بحرية من مستوى البحرية الأمريكية. ومن ناحية أخرى فإن روسيا والولايات المتحدة دولتان تعرف كل منهما الأخرى معرفة أكثر من معقولة، وتعرف كل منهما عقيدة القوات العسكرية للطرف الآخر واستوعبتها وتدربت على مواجهتها واحتوائها.
النخبة العسكرية الأمريكية تقرأ طبعًا الأدبيات الإستراتيجية الصينية وتعرف طبعًا تاريخ الصين العظيم، ولكنها لا تعرف مثلًا إن كان المنشور يعكس الفكر الحاكم حاليًّا، ولا تعرف ما هى المقاربة الأكثر صوابًا.. اعتبار الصين دولة كونفوشية أم اعتبارها دولة ما زالت تؤمن بالعقيدة الماركسية، أم دولة تبنّت فكرًا قوميًّا عدوانيًّا، وطبعًا لا تعرف الكثير عن الروح المعنوية للأفراد العاملين بالقوات المسلحة الصينية.
يلاحظ أن الساحة الأولى للصدام هى ساحة تضم الصين والهند وأستراليا وكوريا الجنوبية وإندونسيا واليابان، وهى منطقة ستنتج فى المستقبل القريب %60 من الناتج المحلى العالمى. وحركة الملاحة وبعض الممرات المائية فى هذه المنطقة محورية فى التجارة العالمية، ولذلك من المهم أن نحاول أن نتعرف على مواقف تلك الدول وتطوراتها الأخيرة.
قبل اندلاع الجائحة كان يمكن تلخيص موقف أغلب هذه الدول كالآتى.. الشريك التجارى الرئيس هو الصين، الضامن لأمننا الولايات المتحدة، نتمنى ألا نجبر على الاختيار بينهما. ولا نريد حربًا باردة أو ساخنة بينهما. قالها الكوريون مرارًا، وقالها الأستراليون مرارًا، وأغلب الدول كانت تذهب هذا المذهب. الاستثناء الهام كان الهند، وسنعود إليه، وبدرجة أقل بكثير اليابان.
وعلينا أن نعرف أن العقيدة الإستراتيجية الصينية على مر التاريخ تحاول إجبار العدو على الاستسلام دون الاضطرار إلى استعمال القوة؛ أى أن التجارة والعمل على زيادة التداخل بين اقتصادها واقتصاد غيرها وتعميق تبعية الآخرين لها والقروض والاستثمارات أدوات هجومية رئيسية لسياستها. المفارقة هنا هى أنك كلما توثقت صلاتك التجارية مع الصين زادت حاجتك إلى الحماية الأمريكية.
الهند كانت تواجه موقفًا صعبًا، فالصين تعتبرها العدو الرئيس، وباكستان تعاديها أيضًا، وحليفها التاريخى ومصدر تسليحها الرئيس- أى روسيا- تحسنت علاقاته مع عدوها ولم تعد تضمنه. ولأسباب تتعلق بثقافتها الإستراتيجية وبأسلوب الولايات المتحدة فى التعامل مع حلفائها وبرغبتها فى الإبقاء على علاقة مع روسيا تخشى الهند الاصطفاف الكامل وراء الولايات المتحدة، فنجدها تشترى 36 طائرة رافال فرنسى.. وأستراليا تعاقدت مع فرنسا لشراء 12 غواصة..
ثم اندلعت الجائحة وانتهجت الصين نهجًا أكثر عدوانية ووقّعت عقوبات قاسية على أستراليا واشتبكت عسكريًّا مع الهند، ونبرة الوعيد أصبحت شبه دائمة. وكانت إحدى نتائج هذا التصعيد هو حث أستراليا على الارتماء فى أحضان الولايات المتحدة وبناء حلف معها، والسعى إلى تسليح أقوى، وكانت فرنسا والعقود معها هى الضحية.
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية