بعض الخواطر التاريخية
أمضيت الأسبوع راقدًا لمرضي وغارقًا فى كتب التاريخ، وأخصّ بالذكر تحفة الراحل البريطانى طونى جودت (بضم الجيم) «ما بعد الحرب» عن تاريخ أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية، وهو الكتاب الذى نال جائزة «الكتاب الأوروبي» سنة 2008. قرأته لتعميق معرفتى بأوروبا وفوجئت بأنه يساعدنا- دون قصد طبعًا فهذه ليست مشكلته- على فهم التاريخ المصري.
مثلًا لم أكن أعلم أن قضية الإصلاح الزراعى والحد من الملكية الزراعية كانت مطروحة بقوة فى أغلب الدول الأوروبية، فى كل دول أوروبا الشرقية – ولم تكن كلها تحت حكم شيوعى سنة 45 – وفى عدد كبير من دول أوروبا الغربية أو الجنوبية أهمها إيطاليا. وكان هناك شبه إجماع وطنى على ضرورته لأسباب.. أهمها أن مستوى حياة الفلاحين كان فى تدهور مستمر وجسيم منذ مطلع القرن- أى أن أوروبا كانت تعرف مشكلات الريف المصرى نفسها – ومن ناحية أخرى كان كبار الملاك وكانوا متحكمين فى أكثر الأراضى جودة غير راغبين فى تطوير الأداء ولا فى تحسين أحوال الأُجراء، أو على الأقل العمل على حد تدهورها.
وكان الهدف من الإصلاح الزراعى خلق طبقة من صغار الملاك لها مصلحة فى تأييد الأنظمة، ولا مصلحة لها ولا رغبة فى تأييد الحركات المتطرفة، يسارية كانت أم يمينية – كان الجميع يعتقد أن الفلاحين كانوا سندًا للفاشية والنازية.
كنت أعلم طبعًا أن الأمريكيين والبريطانيين كانوا يطالبون بهذا الإصلاح، وأن رفض الملك له أحد أسباب التخلى عنه، وكانت العواصم الغربية تخشى انضمام الريف المصرى للشيوعية ويخشون نشوب حرب أهلية، وأذكّر القارئ بأن مَن أشرف على صياغة قانون الإصلاح الزراعى وتطبيقه فى مصر هو المرحوم جمال سالم؛ وهو من أشجع الضباط الأحرار وأكثرهم وطنية، وكان من أنصار التعامل مع الأمريكيين بإيجابية، كنت أعلم هذا ولكننى لم أكن أعرف أن المشكلة عالمية وأن روشتة العلاج – أى قانون الإصلاح الزراعي – تم اختبارها فى دول أوروبا، وكانت النتائج عامة إيجابية مع بعض الاستثناءات.
لا يعنى هذا أن نقد السياسة الناصرية فى الحد من الملكية ممنوع، يمكننا أن نأخذ على السياسة الناصرية كونها أصدرت ثلاثة قوانين تحدّ الملكية فى 17 سنة، تحت شعار تعميق التجربة الاشتراكية، وهذا أثّر سلبًا على النشاط الاقتصادي، كان الأحسن إصدار قانون واحد أكثر راديكالية من ذلك الذى صدر سنة 1952.. ولكن ناصر وجمال سالم فضّلا التدرج لأنهما خشيا على الإنتاجية، خشيا ألا يكون المستفيدون من القانون قادرين على المحافظة على مستويات الإنتاج وعلى الاستثمار فى أراضيهم.
كما قلنا: النقد جائز مع ضرورة فهم تعقيدات إدارة الملف بين اعتبارات العدالة والفعالية الاقتصادية، لكن شرح قانون الإصلاح الزراعى بدوافع دنيئة وبغيرة وحقد ناصر شرحٌ يجانبه الصواب.
نستطيع أن نقول أشياء شبيهة فيما يتعلق بالتخطيط القومي، عبد الناصر وكل أفراد جيله تشكَّل وعيهم فى الثلاثينات من القرن الماضي، فهم عانوا قسوة الأزمة الاقتصادية العالمية. أيامها كان من الصعب أن تعثر على سياسى أو خبير أو صاحب رأى يؤمن بقدرة السوق على ضبط نفسها بنفسها، وكان الكثيرون مخدوعين فى التجربة السوفيتية فهم يرون كيف حوّلت البلد من بلد زراعى إلى بلد صناعى بفضل تخطيط، ولا يرون الثمن الباهظ – ملايين من الموتى وعشرات الملايين العاملين بالسخرة.
وكان التخطيط شعار المرحلة فى كل أوروبا- الشرقية والغربية على حد سواء، مع اختلاف مفهوم التخطيط من دولة لأخرى، ويمكننا لوم ناصر لاختيار نموذج شبيه بالنموذج الأوروبى الشرقى يبالغ فى تحديد الأهداف بدقة. لكن هذا العصر كان عصر التخطيط، وهناك كتب أمريكية قالت إن هذا هو الطريق المثالى لدول العالم الثالث.
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية