خواطر مواطن مهموم (104)

خواطر مواطن مهموم (104)
توفيق اكليمندوس

توفيق اكليمندوس

7:35 ص, الأحد, 5 سبتمبر 21

أفول هيمنة

أعود إلى الوراء قليلًا.. إلى يوم انهيار الاتحاد السوفييتى، وأفكر فى الأوراق التى كانت تمتلكها الولايات المتحدة، وكيف نجح الرئيس جورج بوش الأب فى اللعب بها لخدمة بلاده وحلفائها، وعندما تحدّث البعض عن نهاية التاريخ؛ لأن التاريخ أثبت أن خير الأنظمة هى تلك التى تجمع بين الديمقراطية التمثيلية والرأسمالية الكبيرة، وعندما تحدّث البعض الآخر عن دخولنا فى قرن سيكون أمريكيًّا، لم يعترض إلا القليل. وأتذكر جيدًا نشوى وسَكرة النصر التى سيطرت على عقل الغربيين وحلفائهم والكثير من المؤمنين بالديانات الكبرى؛ سماوية كانت أم لا، ورأى الكثيرون فى انهيار الشيوعية حكم الله عز وجل. ألم يكن سقوط حائط برلين نتيجة تصريح عبيط ومتسرع لمسئول روسى غير مُلم بالملف؟ رأى الكثير فى هذا الأمر حيلة من الله.

وتمّت عمليات الانتقال إلى الديمقراطية وتفكيك الاتحاد السوفيتى وتوحيد ألمانيا فى يسر وسلاسة رغم تعقيدات كل الملفات ورغم ارتكاب بعض الأخطاء، وأسهم عاملان فى هذا النجاح.. الضغوط الشعبية الهائلة لتحقيق هذه الأهداف، والبراعة الفائقة للرئيس بوش الأب وللمستشار الألمانى هلموت كول. كما لعب السلطان الروحى لبابا روما يوحنا بولس الثانى البولندى الجنسية دورًا هامًّا.

ورحل بوش الأب تاركًا لخلفه أوراقًا هائلة وعددًا من الملفات المستعصية، مثل الشرق الأوسط والبلقان ويوغسلافيا والقرن الإفريقى، وتفرّغ الرئيس كلينتون لحلّها وللتعاون مع الرئيس الروسى يلتسين، ولم ينتبه بما فيه الكفاية لصعود الصين- رغم حدوث أزمة كبرى بينهما- ولنمو السلفية الجهادية فى مناطق عديدة. ولم ينجح كلينتون إلا فى الملف اليوغسلافى البلقانى، رغم عظيم جهوده فى الملف الفلسطينى الإسرائيلى، وفى الملف العراقى اتخذ عددًا من الخطوات الخاطئة التى مهّدت لقرار بوش الكارثى بغزو البلاد.

بقية الرواية معروفة، لقد خاضت الولايات المتحدة حربين أنفقت فيها ما يجاوز الـ2 تريليون دولار، وتقدره بعض المصادر بـ8 تريليون، حربان قُتل فيها 7 آلاف من الجنود الأمريكيين، والحصاد فى أفغانستان أكثر من الصفر بقليل، وفى العراق الحصاد هش، أكتفى هنا بالقول إن النخبة الأمريكية نجحت لفترة طويلة فى خداع شعبها، أو قُل: فى تنويمه. لا أتكلم فقط عن أكاذيب إدارة بوش لتبرير غزو العراق، بل أتكلم عن نجاحها هى وخلفها فى تمويل الحرب دون رفع الضرائب، فلم يحس المدنيون بتكلفتها، ونجحت النخبة فى التقليل من أهمية الخسائر البشرية. فالتركيز على عدد الذين قُتلوا فى الميدان يعفى عن ذكر مَن انتحر بعد عودته من الميدان، وعددهم يفوق الثلاثين ألفًا وفقًا لبعض المصادر، وعن إعطاء أرقام تفصيلية عن أعداد الذين خسروا ذراعًا أو ساقًا، وعن أعداد من يعانى اضطرابات نفسية وعصبية نتيجة هول ما عاشوه فى الميدان، ولا طبعًا عن مئات الآلاف من المدنيين الذين قُتلوا فى المعارك أو عن الملايين الذين أصبحوا لاجئين فى دول مجاورة.

لا أشكُّ لحظة، إنْ خُيّرت بين الحياة فى الولايات المتحدة أو فى الصين سأختار؛ شأنى شأن غيرى، الحياة فى الولايات المتحدة رغم إعجابى بالحضارة الصينية واستيائى من عجزى عن تخصيص قدر كاف من وقتى للخوض فى دهاليزها، لكن المقارنة بين السياسة الخارجية الصينية وإستراتيجيتها- حتى فى طورها العدوانى الحالى- والسياسة الخارجية الأمريكية، مقارنة مُذلة ومُهينة بالنسبة لنخب واشنطن. هذه النخب ترى فى «فخ الديون»- تقدم الصين قروضًا سخية ثم تطالبك إنْ عجزت عن دفع المستحقات بتنازلات تمس السيادة على موانئ وأقاليم- قمة فى الخبث والدناءة، بينما ترى فى نفسها قمة التنوير العالمى رغم سجلها.

الصين بلد فلاحين، بالنسبة لهم الحرب هى محاصيل محروقة وبيوت مدمرة، كل فنون الإستراتيجية الصينية ترمى إلى دفع الخصم إلى الاستسلام دون إطلاق رصاصة واحدة.

* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية