الولايات المتحدة والانسحاب من أفغانستان
فى المقال السابق قلتُ على عجالة إننى أعتقد أن قرار الانسحاب من أفغانستان كان سليمًا، ثم خصصت المقال للحماقة الشديدة فى التنفيذ… ويأتى كل يوم ليكشف تفاصيل جديدة عن الرعونة والتسرع. وقد أعود إليها لأن بعض الأخطاء تطرح أسئلة نظرية هامة وعالمية… هل المقرطة ممكنة فى أية بيئة وأى وقت؟ ماذا يفعل قائد عسكرى إذا تلقّى من رئيس مدنى أمرًا لا يمكن تنفيذه؟ هل مِن واجبه الطاعة العمياء أم مناقشة الأمر؟ كيف تحسب المكسب والخسارة؟
فى هذا المقال أفضِّل التركيز على رشادة القرار بالانسحاب. لن أطيل فى تفصيل كلفة العملية فى الأرواح والأموال والعتاد، مكتفيًا ببعض الملاحظات، بفضل الطب عدد القتلى فى القوات الأمريكية منخفض نسبيًّا، ولكن عدد الجرحى والجنود الذين خسروا ذراعًا أو ساقًا مَهول. ووجودهم فى المدن الأمريكية- أهلهم والجمهور يراهم يوميًّا- يؤثر على المعنويات وينزع يوميًّا قسطًا من شرعية الحرب.
ثانيًا نميل فى منطقتنا إلى تصور أن الولايات المتحدة دخلت أفغانستان والعراق، وفى يديها خطة مُحكمة مكتملة الأركان، وأن مقاومةً ما أفسدت تلك الخطة. ما حدث مختلفٌ إلى حدٍّ ما… الولايات المتحدة دخلت أفغانستان دون امتلاك أية خطة ودون امتلاك كوادر تعرف البلد، ودون أن يكون لديها متخصصون وهيئات تتولى أمر إعادة بناء الدول. غزو أفغانستان كان ردًّا على هجوم إرهابى مُباغت فاجَأها. ولذلك أمضت الولايات المتحدة فى السنوات الأولى تجرِّب وتخطئ كثيرًا، وتصيب نادرًا… وعندما أدركت خطأ منهجها كان الوقت قد تأخر، ورغم تقارير رسمية تصف الوضع بعمق وتفصيل ودقة لم تنجح واشنطن فى تعديل الدفة.
رشادة القرار لا تكمن فقط فى الإقرار بوجود فجوى كبرى بين حجم الاستثمارات والجهود، وبين العائد والنتائج. رشادة القرار تكمن فى قراءته للخريطة الدولية ولأحوال الجيش الأمريكي. الخريطة الدولية تشهد صعودًا صينيًّا سريعًا وعدوانيًّا واستمرار وجود روسيا كقوة تسعى باستمرار إلى إرهاق الغرب وإضعافه واستنزافه… وتهدد جمهوريات البلطيق وشرق أوروبا… فروسيا لا تستطيع أن تصبح كالولايات المتحدة… ناتجها الإجمالى كالناتج الإجمالى لإسبانيا، ولكنها تستطيع أن ترهق واشنطن، وطبعًا الولايات المتحدة لم تعد تملك القدرة على تشكيل النظام العالمى على هواها. وهناك عدد من الدول الأصغر حجمًا مثل تركيا والبرازيل وإيران، وربما نيجيريا وإثيوبيا تريد تغيير قواعد اللعبة.
الميزان العسكرى نلخصه كالآتي… أغلب القوى العالمية شرعت مع بداية الألفية فى تنمية قدراتها العسكرية، والاستثناء الوحيد هو الدول الأوروبية التى لم تُفِق من غيبوبتها الإستراتيجية قبل 2014 وغزو روسيا للقرم.
وإحدى نتائج هذه المستجدّات أن الولايات المتحدة لم تعد قادرة على شنّ أو خوض حربين فى الوقت نفسه؛ إحداها ضد روسيا، والأخرى ضد الصين، ومع تحسن العلاقات بين روسيا والصين، على الولايات المتحدة التفكير فى سيناريو نجد فيه الصين تشن هجومًا شاملًا على تايوان، وفى الوقت نفسه روسيا تستولى على جمهوريات البلطيق.
ردّ الفعل الأمريكى الأول على هذه التطورات كان التركيز على الصين وحثّ أوروبا على بذل الجهود لتأمين نفسها بنفسها بقدر الإمكان ولتأمين المناطق المصدرة للتهديدات مثل ليبيا والساحل والصحراء. لكن الأداء الأوروبى ما زال دون المستوى ولا يتحسن إلا ببطء شديد جدًا.
ويبدو أن القادة الأمريكيين يخشون من تأثير «العادات السيئة» التى اكتسبها الجنود فى حروب الألفية ضد الإرهاب وضياع بعض المهارات. على سبيل المثال اعتاد الطيارون التحكم فى الأجواء دون قتال أو دون مضايقات دفاع جوى عدو. واعتادت القوات البرية حربًا دون الانتباه لخطر آتٍ من السماء، كما اعتاد الكل الاعتماد على الإلكترونيات والكمبيوتر والاتصالات، دون خشية أى تشويش. لمحاربة روسيا أو الصين، عليك أن تكتسب مهارات أخرى.
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية