خواطر مواطن مهموم (100)

خواطر مواطن مهموم (100)
توفيق اكليمندوس

توفيق اكليمندوس

7:00 ص, الأحد, 8 أغسطس 21

تنظيم الضباط الأحرار

مرة أخيرة

فسّر المراقبون نجاح الضباط الأحرار فى الاحتفاظ بسرّيّة تنظيمهم إلى اتباعهم أسلوب الخلايا العنقودية؛ وهو أسلوب ميّزهم عن بعض التنظيمات الوطنية التى سبقتهم فى العمل الوطنى داخل الجيش. وهذا الأسلوب معناه أن التنظيم مقسم إلى خلايا، أعضاء كل خلية يعرفون بعضهم البعض ولا يعرفون أى عضو من أية خلية أخرى، رئيس الخلية يتعامل مع أحد أعضاء القيادة أو مع مندوب للأخير، ولا يتعامل مع رؤساء خلايا أخرى؛ أى أن التنظيم قائم على الشح فى توزيع المعلومات، لا يعرف أى عضو فيه إلا أقل القليل عن التنظيم، فإذا وقع فى شباك الأمن لن يبوح عن الكثير.

ولا «أشتري» تلك الرواية كما هي، من ناحية المبدأ شيء، وتطبيقه شيء آخر، الجيش كان مؤسسة صغيرة وسِلك الضباط لا يضم إلا خمسة آلاف فرد، يعرفون بعضهم البعض، ومن ناحية أخرى يفترض تطبيق صارم لمبدأ العنقودية ثبات كل ضابط فى موقعه المهنى لا ينتقل منه، والواقع كان طبعًا مختلفًا، من يخدم فى القاهرة، اليوم، يخدم فى سيناء اليوم التالي، من يخدم فى الوحدة «أ»، اليوم، يخدم فى غيرها بعد قليل. ولذلك عرف أغلب الضباط أعضاء خليتين على الأقل؛ لأنهم لم يُمضوا الثلاث سنوات ونصف فى نفس المكان. أضف إلى هذا أن المحافظة على سر أمر ممكن إلى حدٍّ ما فى القاهرة والإسكندرية، ولكنه أصعب بكثير فى العريش ورفح والإسماعيلية… إلخ. فى مدينة كالعريش مثلًا كيف يستطيع ضباط خلية يخدمون فى نفس الوحدة أن يجتمعوا دون أن يلاحظ قائد الوحدة وزملاؤهم هذا؟ وأذكر أن عدد سكان مصر، هذه الأيام، لم يكن يتجاوز الاثنين وعشرين مليون فرد…

ولذلك أفضّل التفسير بوجود بيئة حاضنة، التنظيم وخطابه كانا يلقيان تأييد الضباط من جميع الرتب، وكما قلنا فى المقال الماضى لم يتقدم أحد ببلاغ يكشف نشاط أحد أفراد التنظيم. أقصى ما تم قيام بعض الضباط بتسليم منشورات التنظيم التى تصلهم لإدارة المخابرات الحربية التى لم تحقق بجدية فى الموضوع.

من ناحية أخرى كانت قيادة التنظيم تواجه مشكلة كبيرة، فهى كانت فى مرحلة بناء وتُعادى فكرة العمل العنيف الذى لا يقدم ولا يؤخر ويتسبب فى كراهية الجمهور للتنظيم؛ أى أن القيادة تضم ضباطًا للتنظيم وتجندهم، وهؤلاء الضباط يخاطرون بالكثير- مستقبلهم المهني- عندما ينضمون ويفاجئون بأن المطلوب منهم «الكمون» لفترةٍ قد تطول. وعند تقدم أحدهم باقتراح عمل عنيف يتم رفض هذا الاقتراح. وكان الكثير يسأل.. لماذا أستمر فى تنظيم لا يقوم بأى عمل سوى ضم أعضاء؟ أريد خدمة الوطن ومستعدّ لقبول المخاطر.. لكن قبول المخاطر دون أى عمل أمر لا معنى له.

وبدأت القيادة تبحث عن طريقة تشغل بها الضباط دون أن ترتكب ما لا يُحمد عقباه، تبحث عن عمل يكون جماعيًّا يقوى الروابط والأواصر بين أعضاء التنظيم ويسهم فى عملية ضم ضباط جدد ويكون أقل خطرًا من تنفيذ عمليات اغتيال أو تفجيرات، وتوصّل اجتهادها إلى فكرة المنشورات. وهو عمل يقتضى تبرعات من أعضاء التنظيم لشراء ماكينة طبع، وعمل جماعى للاتفاق على موضوع وصياغة المنشورات، ولتحضير قوائم الضباط التى سترسل إليهم المنشورات، ولتنفيذ مهمة توزيع المنشورات، ولتشكيل فِرق تراقب بهدوء ردود أفعال المرسل إليهم لتحدد مدى استعدادهم للانضمام.

وكانت فكرة توزيع منشورات فكرة لا تتفق وقواعد السرية، وتعرض أعضاء التنظيم للخطر إن ارتكبوا خطأ ولو صغيرًا كترك البصمات على ظرف أو كالخطأ فى فهم رد فعل المرسَل إليه. ولكنها كانت ضرورية لإبقاء الضباط فى التنظيم، ولإقناعهم بأنهم يقومون بعمل إيجابي، ونفس المنطق حكم دخول انتخابات مجلس إدارة نادى ضباط الجيش.

* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية