عندما نتكلم معًا، بين مصريين، ونستشهد بالإعلام الغربي، هناك دائمًا من يقول هذه رواية الإعلام الغربي، ومنا من يقولها ليؤكد صدق هذه الرواية، ومن يقولها لينزع عنها أية شرعية وأية علاقة بالحقيقة، وأغلبنا يستشهد به عندما تؤكد روايته وتقاريره قناعاتنا وأفكارنا المسبقة، ويرفضه عندما تصدمها. ولكى لا نظلم أنفسنا، لسنا الشعب الوحيد فى العالم الذى يتصرف بهذه الطريقة، الغربيون أيضًا لا يصدّقون إعلامهم ويسيئون الظن به، ولا يعتمدون روايته إلا لو قوَّت قناعاتهم.
أعترف بأن موقفى متناقض من هذه القضية، من ناحية أقرأ – بحكم مهامّى – هذا الإعلام، ومن ناحية أخرى لا أثق فيه تمامًا، أول رد فعلى عندما أسمع محاورًا يقول “الإعلام الغربي” أن أقاطع المتحدث وأقول “لا يوجد شيء اسمه الإعلام الغربي، هناك المئات من الصحف والقنوات ولا أحد يطلع عليها أو يشاهدها كلها”… وهذا لا يمنعنى من التحدث عن إعلام غربي، فى كلامي.
مع الإقرار بوجود تنوع كبير فى المشارب والاتجاهات يبقى أن الوسائل الرئيسة هى قناة CNN، وصحف النيويورك تايمز، والواشنطن بوست، والوول ستريت جورنال، والفايننشال تايمز، ووكالة رويترز، وزى إيكونوميست باللغة الإنجليزية، وجريدة لوموند الفرنسية، وربما قناة فرنسا 24، ويمكن القول إن الخطوط العامة للمحتوى متشابهة، على الأقل فيما يخص بعض القضايا، ومنها شئون بلدنا، وشئون أوروبا، وهو محتوى سِمته الرئيسة رفض رؤية الحقائق المهمة، ومن ثم العجز عن تحليلها تحليلًا سويًّا، والعجز عن التعبير عن اتجاهات الرأى العام فى دولهم، أو عن تشكيلها والتأثير عليها. وأزعم، دون أسانيد، أن هذا الإعلام وخطابه التلقينى لعبا دورًا فى زرع المشاعر الكارهة للغرب فى بقية العالم، وفى نمو اليمين المتطرف وظاهرة تصديق نظريات المؤامرة فى الدول الغربية.
أقر طبعًا بأن لهذا الإعلام مزايا عديدة وخصالًا حميدة لا نجدها فى إعلام غيره، لديه مراسلون فى كل أنحاء المعمورة، فى عدد كبير من المجالات والفضاءات يتميز تحليله بعمق مذهل، هناك عدد معقول من الصحفيين الجادّين ذوى الثقافة الرفيعة، فهم القضايا الاقتصادية لا مثيل له، وفى هذا المجال تحديدًا هناك حوار فكرى أتعلّم منه، اهتمامه بالإنتاج الثقافى والعلمى يضمن تغطية معقولة جدًّا. نقطة ضعفه القضايا السياسية والاجتماعية والأمنية، وهى نقطة ضعف تتفاقم عند تغطية أحوال بعض الدول بعينها. والموضوعية تقتضى الاعتراف بأنه رغم مساوئه أفضل المتاح – المنافسون فى تقديرى صحف ومواقع غربية ذات التوجه المختلف، ولا تتمتع بالحضور نفسه، يضاف إليها جريدة الشرق الأوسط.
لا أقول هذا للدفاع عن إعلامنا، ولا عن الإعلام الموجَّه بصفة عامة، الفكرة التى تهمُّنى مفادها أن استقلال الصحافة وحريتها لا يكفيان لضمان تغطية موضوعية صادقة. الفكر الليبرالى يميل إلى إنكار التأثير الضار للملكية الخاصة للإعلام، إذ يرى أن الرغبة فى تحقيق أرباح تفرض موضوعية توفر مصداقية؛ أى أنه يفترض وجود رأى عام رشيد قادر على معاقبة غير الجادين بمقاطعتهم، ولا نقول إن هذا الاعتبار لا يلعب دورًا مهمًّا، لكن اعتبارات أخرى تلعب فى اتجاه معاكس. منها رغبة الجمهور فيما يؤكد تصوراته وأفكاره المسبقة، ومنها رغبة صاحب العمل فى منع ما يضرُّ مصالحه أو مصالح عملائه، وفى أحوال ليست بالقليلة لا يكتفى بالسكوت، ولكنه يضغط للترويج لفكرة أو جهة ما.
والمشكلة الكبرى هى التوجهات الأيديولوجية لأصحاب “الكار”، الصحفيين الغربيين، ولا سيما من يتولى منهم مراكز قيادية فى مقر الجريدة، فهم قادرون على اختيار عنوان المقال… وما أكثر القراء الذين يكتفون بقراءة العنوان… وهم يحذفون الفقرات التى لا تعجبهم، ويتذرعون بحجج مختلفة؛ منها ضيق الوقت أو المساحة، ومنها عدم أهمية الفقرة أو ركاكة الأسلوب… إلخ. فى فرنسا اتجاه تصويت الصحفيين كاشف لتوجهاتهم بوضوح.
يتبع
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية