بقلم : طارق عثمان
لورد هاستينج إسلاى، أول سكرتير عام لحلف الأطلنطى (الناتو) – التحالف العسكرى الغربى الأكبر والأهم، والذى تقوده الولايات المتحدة، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية – علق، مرة، على أهداف الحلف، قائلاً: «أن نبقى الروس out، الأمريكيين in، والألمان down».. النقطة الأخيرة تغيرت، لكن الأوليتان ما زالتا على قمة الأولويات، الآن والتحالف يحتفل بسبعين عاماً على إنشائه.
النقطة الأولى، بالذات، تمثل نجاحاً للحلف. فبالرغم من غضب إدارة الرئيس ترامپ من تكفل الولايات المتحدة بالجزء الساحق من تكاليف عمل الحلف، وهو المعنى، تاريخياً، بالدفاع عن أوروپا، فإن قيادة الحلف استطاعت امتصاص هذا الغضب، ومنعه من إضعاف الحلف من الداخل. والآن، فإن هناك قدرًا من الاستجابة، من بعض دول أوروپا، بخصوص زيادة حجم مدفوعاتها الدفاعية. صحيح، أن الطلب الأمريكى (بُناء على قواعد الحلف) أن تُخصص كافة الدول الأعضاء %2 من ناتجها القومى لميزانيات الدفاع، ما زال بعيدا عن التحقيق، أن الضغط الأمريكى قد نجح فى زيادة المّخصصات العسكرية فى أهم دول أوروپا. وعليه، فإن العمود الفقرى لحلف الاطلنطى يبدو الآن أصح مما كان عليه من سنوات قليلة.
هناك نجاح آخر للحلف وهو يحتفل بعيده السبعين، وهو استيعابه لعدد كبير من الدول التى كانت حتى انتهاء الحرب الباردة (فى بدايات التسعينيات) داخل المعسكر الشرقى، التابع للاتحاد السوڤيتى. هذا النجاح استراتيجى بامتياز، فهو قد أوصل حلف الاطلنطى – بقدراته العسكرية الهائلة – إلى أعماق مجال النفوذ الروسى التقليدى، سواءاً فى أقصى شرق اوروپا، أو فى جنوبها (فى البلقان).
لكن هذا النجاح الاستراتيجى، بالذات، أعاد خلق المشكلة الرئيسية التى، من أجلها، تم إنشاء الحلف – وهى مواجهة احتماليات التوسع الروسى ناحية الغرب. ذلك، أن اليوم، بعد أكثر من ربع قرن على انتهاء الحرب الباردة، بانتصار ساحق للمعسكر الغربى بقيادة الولايات المتحدة، فإن روسيا (الامتداد التاريخى للاتحاد السوڤيتى)، وبالرغم من مشاكلها الاقتصادية المُعقدة، قد استعادت عافيتها كدولة محورية، وهى ترى فى توسع حلف الاطلنطى فى شرق وجنوب أوروبا الخطر الأهم عليها، والتحدى الرئيسى لكينونتها كدولة كبرى لها مجال نفوذ يتعدى حدودها.
هذه الفكرة كانت فى عمق العمليات العسكرية فى أوكرانيا وچورچيا فى العقد الماضى، والتى اعادت النفوذ الروسى إلى مناطق، بدت فى منتصف التسعينيات وكأنها على وشك الالتحاق بمدار الحركة الغربى (أو الأمريكى).
وعلى هذا، فإن الفكر الاستراتيجى لحلف الناتو، وهويحتفل بعيده السبعين، ما زال يرى فى روسيا – بالذات تحت قيادة الرئيس پوتين – الخصم الرئيسى.
لكن روسيا ليست الخصم الوحيد. ان صعود الصين يأخذ الآن، بوضوح، صورة عسكرية، سواء فى المحيط التالى مباشرة لحدودها (بالذات فى بحر الصين) أو فى نطاق أوسع (فى دائرة تصل إلى شرق وجنوب شرق آسيا).
هذا الوضع يمثل تحدياً من نوع جديد لحلف الناتو. فالحلف مسئول عن الدفاع عن اوروپا، وليس معنياً (تاريخياً على الأقل) بديناميكيات الصراع الجيوستراتيجى فى آسيا. لكن المتغيرات الحادثة فى آسيا على قمة أولويات الولايات المتحدة، وبالذات مؤسساتها المعنية بالأمن القومى، وعليه فإن حلف الناتو – وهو، واقعياً امتداد للمعسكر الغربى الذى تقوده الولايات المتحدة، معنى للغاية باهتمامات الأخيرة. والظاهر حتى الآن، أن الناتو لن يُغير من نطاقه الجغرافى ولكنه سيخدم الاهتمام الأمريكى بالصين، فى أوروپا – بمعنى أن أولويات عمل الناتو سوف تضم، فى السنوات القادمة، الجوانب الاستراتيجية للاستثمارات الصينية فى أوروبا، وهى فى أغلبها ذاهبة إلى البنية التحتية وشبكات الاتصالات والمواصلات، وغيرها من الصناعات المرتبطة، مباشرة أو غير مباشرة، بالأمن القومى لدول اوروپا.
هذه النقطة (الرابطة بين النفوذ الاقتصادى الصينى والأمن الأوروپي) تصل أبعادها الى خارج أوروپا. فعلى سبيل المثال، إن أكثر من %10 من كل حجم التجارة الخارجية الألمانية وتقريباً %12 من التجارة الخارجية البريطانية يمر فى بحر الصين، وهذا يُعرِض البلدين لقابلية التأثير الصينى.
أن من حق حلف الأطلنطى، ووراءه النجاحات التاريخية التى حققها، أن يحتفل بعيد ميلاده السبعين. ولكن الصورة الدولية التى يواجهها الحلف اليوم، تبدو أصعب كثيراً من أى مما واجهه، على الأقل فى نهايات القرن الماضى منذ انهيار الاتحاد السوڤيتى، كما أن نوع التحديات يتعدى النواحى العسكرية التقليدية إلى ما هو چيو-اقتصادى. ولذلك، فنحن كمراقبين هنا فى العالم العربى، يعنينا أن نتابع تيارات الفكر الظاهرة الآن، والقادمة، فى دوائر الفكر داخل ذلك الحلف العتيد.
- كاتب مصرى مقيم فى لندن