منذ أن ترسخت استخدامات نظرية “الردع المتبادل” لمنع الصدام المسلح بين القوى الكبرى المتصارعة فيما بينها لأجل اكتساب النفوذ الإستراتيجى على الصعيد الدولي، إذ يشهد العالم تحولات تبادلية فى الصراعات العسكرية، من النزال المباشر بين الجيوش النظامية على ما درجت عليه الحِقب الغابرة إلى ما بعد الحربين العالميتين الأخيرتين.. لتصبح “حروبًا بالوكالة” عن طريق أطراف ثالثة، تلعب الميليشيات المسلحة غير النظامية دورًا أساسيًّا فى حسم الصراع لطرف على آخر.. أو إلى إشاعة الفوضى واللااستقرار- بلا غالب أو مغلوب- ما بات يهدد الأمن الدولى فى مختلف أقاليم العالم، ذلك على النحو المشهود للتحول بجيوشها النظامية (غير الصديقة) إلى مجرد وحدات تستغرقها مهامّ مكافحة “الإرهاب” الذى لم يكن أن تبلغ شوكته تلك القوة التى بلغتها منظماته (الجهادية) ما لم تلقَ الدعم بشكل أو آخر من القوى ذات المصلحة البراجماتية فى استخدامها لتحقيق الهيمنة على النظام الدولى، ليس آخرها ما يجرى مؤخرًا أغسطس 2021 فى وسط آسيا، من حيث انسحاب الأميركيين من أفغانستان، ما شجع منظمة “طالبان” إلى الإسراع بملء الفراغ الناشئ دون مواجهة مع الجيش الأفغانى (300 ألف جندى.. أنفقت الولايات المتحدة على تدريبه مئات المليارات على مدى العشرين عامًا الأخيرة)، ما يتيح لظهور طالبان مجددًا، كمنعطف تاريخي، اعتزالها محل اختبار دولى وإقليمي، أن تعطى قُبلة الحياة لمنظمات جهادية لكى تعمل وتنشط من بعد أن لحقتها الهزائم مؤخرًا، مثل الإخوان- القاعدة- داعش.. وما إليهم من مشتقات تَستخدم العنف المسلح فى محاولاتها (مع قوى كبرى) تفكيك الجيوش النظامية، ومن ثم للامتداد- إرهابًا- كالأخطبوط فى الشرق الأوسط.. من العراق إلى سوريا ولبنان، ومن ليبيا إلى اليمن، ناهيك عن مصر المحاصرة من جانب حصونها الطبيعية الأربعة، ذلك عبر أدائها دور “الخادم الذليل” لقوى إمبريالية تمسك من عواصمها بأطراف خيوط تحريك الإرهاب الدولي.. سعيًا للتخلص مما يعتريها من قلق وتوتر إزاء جيوش دول تعتبرها غير صديقة، ذلك كما حدث من غزو العراق 2003 إلى نزع الترسانة الصاروخية الليبية فى ديسمبر 2003، وكما فى العراق عام 2014 حين استولت “داعش” على مدينة الموصل بالتوازى مع انهيار الجيش.. الذى تولّى مهمته ميليشيات محلية (..) ومعها دول أجنبية كالولايات المتحدة وإيران، ناهيك عن عجز الجيش الوطنى السورى فى الدفاع عن نظامه منذ 2011 فى مواجهة “جيش النصرة” وما إليه من ميليشيات تولّت الدفاع عن سوريا، ومن ثم إلى افتقاد جيشها أخلاقه الاحترافية، سواء كان من جانب وكالات لبنانية وعراقية وأفغانية.. فضلًا عن دول كإيران وتركيا وروسيا، أما عن جيش لبنان فقد أصبح عاجزًا عن حمايته بعد إرهاب الدولة من جانب قوات إسرائيل التى اجتاحته 1982، بالتزامن مع بروز “حزب الله” الموالى لإيران وسيطرته من بعد على القرار السياسى الرسمى للبنان التى انسحبت عنه القوات متعددة الجنسية، الأميركية والفرنسية والبريطانية والإيطالية، بعدما عجزت عن إخراجه من فوضاه الأهلية فى غياب جيش الدولة، ناهيك من جانب آخر عن احتمال انقسام الجيش الإثيوبى من بعد انشقاق أبناء “تيجراي” عنه للانضمام إلى إقليمهم، وإلى ما غير ذلك من حروب أهلية بين جيوش دول « فى طور النشوء» وميليشيات إرهابية.. بلغت نحو 148 سجالًا شهدها العالم من بعد الحرب العالمية الثانية إلى عشية الألفية الثالثة الميلادية، دون أن تشهد إلا آحادها إمكان التوصل إلى تسوية سلمية ليست غير نهائية، من بينها مصر التى شهدت على سبيل المثال تفكك جيشها لصالح قوى إمبريالية- مرتين خلال القرن التاسع عشر، 1840 -1882، قبل معاودتها- ثالثًا- محاولة تدميره فى العام 19679، لولا إعادة بنائه بمساعدة سوفيتية ليخوض الحرب مع الجيش السورى ضد إسرائيل فى العام 1973، كادت أن تتحول إلى مواجهة نووية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى، لولا أن حالت دونها مقتضيات أدوات “الردع المتبادل” بينهما، إلا أن الجيش المصرى والسورى بقيا يمثلان منذ ذلك التاريخ حالة قلق وتوتر للمعسكر الغربى الذى أمكنه تحييد قدرات مصر العسكرية من خلال الاتفاق بينها وإسرائيل 1975- 1979، إلى ما دون استثناء حصر الجيش السورى، سواء فى الحرب الأهلية اللبنانية أو عبر ميليشيات إرهابية فى أراضيه منذ 2011، ناهيك عن توريط جيش مصر فى الحرب ضد الإرهاب على حدودها الشرقية والغربية، ودون استثناء شغله جنوبا على امتداد نهر النيل (السودان- إثيوبيا)، أو من حيث تحركات تركيا المضادة لمصر من شمال شرق البحر المتوسط إلى غربه، وفى البحر الأحمر، حيث يتعرض اليمن المشاطئ لسواحله من ناحية أخرى لمحاولة تدمير جيشه على أيدى الميليشيات الحوثية المتحالفة مع إيران، مما يستنزف قوات التحالف الدولى بقيادة السعودية منذ العام 2014 تاريخ استيلاء الحوثيين على صنعاء العاصمة وكبرى المدن اليمنية.
إلى ذلك الغيض من فيض على طول زمن التحول التاريخى.. من تفكيك الجيوش النظامية للدول الصاعدة لصالح تقوية شوكة الميليشيات الإرهابية، لاستخدامها فى الحروب «بالوكالة» بين القوى الإمبريالية، الدولية والإقليمية، إذ بالولاء للدولة وجيشها الوطنى.. قد يغدو كمجرد انتماء لغريب أو أجنبى متعجرف، إلا لمصالحه الذاتية، فيما تتراجع وحدة الأوطان، وتتفكك قوة الجيوش.. وتستقوى شوكة الميليشيات، ذلك ربما فى إطار مخططات الهدم- لعقدين سابقين- فى إعادة بناء الشرق الأوسط (الجديد) أو عبر تحركات الربيع العربى التى تحالفت من خلالها التيارات الجهادية والسياسية مع الغرب أو الشرق، بسيان، ذلك ما لم تفسدها قناعات شعبية جماهيرية تمر حاليا بمرحلة حاسمة ضد تسييس الأديان والمذاهب، إلى جانب تحولات تنموية متشعبة وضخمة، مع انفتاح حضارى تبادلى مع العالم.