قيل لجميل مرارًا أن يسلو بثينة ويقلع عن هواها، فما زاد عن قوله إنه لا يستطيع.
وقال له أبوه ــ فيما يروى الأستاذ العقاد ــ كلامًا مدعومًا بحجج بينة لا ترفض، ولكن جوابه كان لأبيه: «إن الرأى ما رأيت والقول كما قلت» ثم قال: «ولكن هل رأيت قبلى أحدًا قدر أن يدفع قلبه هواه؟ أو ملك أن يسلى نفسه؟ أو استطاع أن يدفع ما قُضى عليه؟ والله لو قدرت أن أمحو ذكرها من قلبى أو أزيل شخصها من عينى لفعلت، ولكن لا سبيل إلى ذلك، وإنما هو بلاء بليت به لحين قد أتيح لى، وأنا أمتنع من طروق هذا الحى والإلمام بهم ولو مت كمدًا، وهذا جهدى ومبلغ ما أقدر عليه»!
وقال له ابن عمه مقالة تستثير النخوة، ولكنه لم يجب ابن عمه ــ كما أجاب أباه ــ إلاَّ بالعجز والبكاء، وقال لابن عمه كما قال لأبيه: «يا أخى ! لو ملكت اختيارى لكان ما قلت صوابًا، ولكنى لا أملك الاختيار وما أنا إلا كالأسير لا يملك لنفسه نفعا».
أو كما قال فى شعره:
هى السحر إلا أن للسحر رقيةً
وإنى لا ألفى لها الدهر راقيًا
وأكد ذلك أوثق التأكيد حين حاول أن ينفيه فقال:
يقولون مسحور يجن بذكرها
وأقسم ما بى من جنون ولا سحر
ولم يلبث أن كشف عن السحر كله والجنون كله حين أردف هذا البيت ببيت تال يقول فيه:
وأقسم لا أنساك ما ذر شارق
وما هب آل فى معلمة قفر
ولا يقسم هذا القسم إلاَّ من هو مجنون ومسحور، من المجانين الذين لا يملكون ما يريدون، ويوشك أن يكرهوا إرادة الخلاص لو ملكوه. فهم فى حبهم للمعشوقة التى هم مفتونون بها على حد قول المتنبى فى افتتان الأحياء عامة بالحياة:
وإذا الشيخ قال أفّ فما ملّ
حياة وإنما الضعف مَلاَّ
لا يشكون العشق لأنهم يطلبون الفكاك منه، وإنما يشكونه لانهم يطلبون الهروب من ألمه إن استطاعوا، وإلا فالبقاء فيه مع احتمال ألمه !
ويرى الأستاذ العقاد أن قصة جميل وبثينة تبدو كعارض نادر من عوارض العلاقات الغرامية، فالمتواتر من قصص الغرام لا يصل إلى هذا الحد من اللجاجة الموبقة التى وصل إليها جميل !
ولا شك أن الغرائز النوعية ـ فيما يقول الأستاذ العقاد ـ أقوى من إرادة الفرد إذا استحكم الصراع بينهما، وبلغ مبلغ الصدام الذى لا محيص فيه من الغلبة لإحداهما، ولكن المسألة هى أن الغريزة النوعية والإرادة الفردية لا تبلغان هذا المبلغ من النزاع والصدام إلا لعارض طارئ لا يتكرر بالضرورة فى جميع الأحوال، وهذه هى الندرة التى يدل وقوعها على شذوذ فى الفرد أو شذوذ فى الأحوال التى تعرضت لها علاقته الغرامية.
فالعشق أصيل فى طبائع الإنسان إذا رددناه إلى الغريزة النوعية، بل هو أصيل فى طبائع بعض الأحياء من الطير والوحش، كما ظهر من تلازم بعض الأزواج واقتصار بعض الذكور على بعض الإناث، بغير تبديل إلى أمد طويل.
ولكن الغريزة النوعية ـــ فيما يقول الأستاذ العقاد ــ لم تخلق لشقاء الأفراد، وليس بلا زم فى خدمتها للنوع ـ أن تمحق الفرد وتتقاضاه حقه من الهناءة والحرية فى جميع الأحوال. ولا سيما إذا تحققت مصلحة النوع بغير هذه التضحية التى لا توجبها خدمة النوع.
فإذا اصطدمت الغريزة والإرادة الإنسانية على اطراد دائم مدى الحياة، فمعنى ذلك أن هناك شذوذ مؤكد فى هذه الإرادة أو فى الظروف التى أحاطت بها، وذلك هو الشذوذ النادر الذى كانت قصة جميل مثلاً واضحًا من أمثلته.
والأغلب ـ فيما يبدو لأستاذ العقاد ـ أن علة هذا الشذوذ راجعة إلى جميل نفسه قبل مرجعها إلى الظروف والأحوال التى أحاطت به وبمعشوقته بثينة.
rattia2@hotmail.com
www. ragai2009.com