تعددت المناظرات بين «جميل» و«عمر بن أبى ربيعة»، وجرت هذه المناظرات على طرائق متعددة، كان كلاهما شاعًرا، وكلاهما مشهورًا بالنسيب، وكلاهما إمامًا لأمثاله من المتغزلين.
فكان جميل فى عصره إمام العشاق المقصورين على معشوقة واحدة.
وكان عمر بن أبى ربيعة فى عصره إمام المشغوفين بمغازلة النساء.
وكان الشاعران متقابلين فى تمثيل البداوة والحضارة، وفى عزة النسب وعراقة الأصل .
وقيل إنهما تلاقيا وتناشدا وسمع منه «جميل» اللامية التى يقول عمر فيها:
جرى ناصح بالود بينى وبينها
فقربنى يوم الحصاب إلى قتلى
فقال له جميل: هيهات يا أبا الخطاب ! لا أقول والله مثل هذا سجيس الليالى، وما خاطب النساء مخاطبتك أحد، وقام مشمرًا.
(سجيس الليالى تعنى طوال الليالى).
ويميل الأستاذ العقاد إلى قبول هذه الرواية، لأن الشاعرين قد تشابها فى معانٍ هى أقرب إلى نمط ابن أبى ربيعة منها إلى نمط جميل.
قال جميل:
إذا خدرت رجلى وقيل شفاؤها دعاء حبيب كنت أنت دعائيا
وقال عمر:
إذا خدرت رجلى أبوح بذكرها ليذهب عن رجلى الخدور فيذهب
وقال أيضًا:
أهيم بها فى كل ممسى ومصبح وأكثر دعواها إذا خدرت رجلى
وهو من القصيدة التي سمعها جميل وشهد من أجلها لعمر بالسبق فى مخاطبة النساء، والبيت أقرب إلى كلام الذين تعودوا محادثة النساء منه إلى كلام العاشق المقصور على معشوقة واحدة، كذلك قال جميل:
وهما قالتا لو أن جميلا عرض اليوم نظرة فرآنا
بينما ذاك منهما رأيانى أعمل النص سيره الزفيانا
(الزفن هو الدفع الشديد والضرب بالقدم كما يفعل الراقص)
وهو أشبه بقول عمر وبفعله أيضًا وخلائقه حيث يقول:
بينما يذكرننى أبصرننى دون قيد الميل يعدو بى الأغر
قلن تعرفن الفتى قلن نعم قد عرفناه وهل يخفى القمر
وقد قيل إن عمر بن أبى ربيعة أنشد بثينة تلك الأبيات الثلاثة من كلام جميل فقالت:
«إنه استملى منك فما أفلح، وقد قيل: اربط الحمار مع الفرس فإن لم يتعلم من جريه تعلم من خلقه».
ومن قصائد جميل المشهورة رائية مطلعها:
أغادٍ أخى من آل سلمى فمبكر أبِنْ لى أغادٍ أنت أم متهجِّر
وهو كمطلع عمر فى قصيدته الرائية التى هى أفضل شعره حيث قال:
أمن آل نعم أنت غاد فمبكر غداة غد أم رائح فمهجِّر
والقصيدة كلها مما قيل إن جميلا سمعه من شعر عمر فأقر له وأثنى عليه.
وفى الديوانين قطعة جيمية القافية رويت لعمر ورويت لجميل منها هذه الأبيات:
قالت وعيش أخى وحرمة والدى لأنبهن الحى إن لم تخرج
فخرجت خيفة قولها فتبسمت فعلمت أن يمينها لم تحرج
فلثمت فاها آخذًا بقرونها شرب النزيف ببرد ماء الحشرج
وهذا كلام فيه كما يقول الأستاذ العقاد ـ فيه من عبث المجون والمماحكة بين عمر وصويحباته، وليس فيه من جد العشق الذى كان عليه جميل وبثينة، ثم إنه لا يوافق فخر جميل باقتحام المنازل والمناجزة لمن يترصدون له بالسيوف حول بيت بثينة، ومنهم أبوها وأخوها كما جاء فى بعض الأخبار.
وكان الشاعران: جميل وعمر، متكافئان فيما يرى الأستاذ العقاد، ويختلفان في المزاج والخليقة، ولا يدعو ذلك إلى تفضيل أحدهما على الآخر فى صناعة النظم والتعبير، ويحمل الأستاذ العقاد اقتباس جميل من عمر على محمل اقتداء البدوى بأهل الحضارة حيثما كان وكانوا.
فهما إذن شاعران ندان متكافئان فى الشعر، وقد خرجا معًا بالغزل كله من ناحيتيه فى القرن الأول الهجرى بأرض الحجاز بين الحاضرة والبادية.
rattia2@hotmail.com
www. ragai2009.com