يبدو هذا الكتاب، مقابلاً ـ فى نظر الأستاذ العقاد على الأقل ـ لكتابه عن شاعر الغزل
«عمر بن أبى ربيعة»، تبدو المقابلة فى أن «جميل بثينة» أو «جميل بن معمر» عاش موكولاً محبًّا لامرأة واحدة، على خلاف عمر بن أبى ربيعة الذى كان عاشقًا متغزلاً فى الجمال حيث كان، دون أن يكون موكولاً أو هائمًا بأنثى واحدة.
والفارق الزمنى بين صدور الكتابين عامان، فقد صدر كتاب «عمر بن أبى ربيعة» فى فبراير سنة 1943 بالعدد الثانى لسلسلة «اقرأ» التى بدأت دار المعارف إصدارها من أول عام 1943، أما كتاب «جميل بثينة»، فقد صدر سنة 1945بالعدد الثالث عشر من نفس السلسلة، وقد تعددت طبعاته، وأكتب لكم من الطبعة السادسة التى نشرت عام 1991، ورقم إيداعها بدار الكتب 7045 /1991 وقد أعيد نشر الكتاب كذلك فى سلسلة أعلام الشعر، وبالمجلد / 16 من المجموعة الكاملة لمؤلفات العقاد إصدار بيروت، كذا بالمجلد الثالث من «موسوعة العقاد الإسلامية» ـ بيروت أيضًا.
وربما تساءل القارئ ـ كما تساءلت ـ كيف للأستاذ العقاد ؛ أن يهتم هذا الاهتمام بأبى نواس شاعر المجون، وبشعراء الغزل، فيكتب عن «عمر بن أبى ربيعة» ثم عن «جميل بن معمر» الذى اقترن اسمه باسم محبوبته «بثينة»، فصار يلقب «جميل بثينة».
وظنى أن اهتمام الأستاذ العقاد بهذا الجانب، نابع من اهتمامه بطبيعة الحياة، وسعيه للاقتراب من أسرار النفس الإنسانية، فضلاً عن اهتمامه بالشعر والأدب.
الشـاعر
يقدم الأستاذ العقاد لهذا الكتاب ـ أو الرسالة على حد تعبيره ـ بأن «جميل بن معمر» الذى اشتهر باسم محبوبته «بثينة» فسمى «جميل بثينة»، كان فى زمانه إمام العشاق العذريين غير مُدَافَع، وأستاذ المدرسة الغزلية التى تجرى على طريقته فى النسيب والتشبيب، وهى ـ فيما يقول ـ مدرسة الشعراء المحبين الموكلين بمحبوبة واحدة، ينظمون الشعر فيها ولا ينظمونه فى غيرها، وقليلاً ما يطرقون بابًا غير النسيب.
واعتمد الأستاذ العقاد فى أخبار الشاعر على مصادر كثيرة، لم ير بينها ما هو أولى بالرجوع إليه، والاعتماد عليه من كتاب «الأغانى» لأبى الفرج الأصفهانى، الأقرب إلى التمحيص والتثبت فيما يرويه، فضلا عما ظهر له فى أمثال هذه السير من عنايته بالجمع والاستيفاء.
والذى بدا للأستاذ العقاد من مجمل أخبار الشاعر أنه «شخص طبيعى»، تصدر منه الأقوال والأعمال التى يعقل أن تصدر عن كل موصوف بصفاته، وإن وقع فيها الخلط والاضطراب كما يقع فى أخبار جميع الأحياء الذين نراهم رأى العين.
والشاعر ـ فيما يرى ـ سند صالح لمعظم أقواله وأعماله، كما أن أقواله وأعماله مادة صالحة «لتكوين»شخص على مثاله، وعلى حياة كحياته .
فإذا قرأنا شعره وقصة غرامه فهمناه، وعند ذلك تسهل العودة إلى ما قاله وما قيل عنه لمعرفة الزيف والصحيح، ولو على سبيل الترجيح.
وفحوى ذلك كله ـ فيما يقول الأستاذ العقاد ـ أن ما قاله وما قيل فيه لا ينجلى بعد الغربلة والمضاهاة عن شخص مستحيل، ولا عن أجزاء مفرقة لجملة شخوص كأنها الأشلاء التى لا تكمل لها صورة، وقد تتعدد فيها الجوارح والأعضاء فوق ما يراد للبنية الواحدة.
ويرى الأستاذ العقاد أن شعراء العشق جميعًا ـ فى عصر جميل بن معمر ـ يصدق عليهم من هذه السمات ما يصدق عليه، مع اختلاف يسير فى الوضوح والتحقيق.
فقد كانوا جميعًا نتاج عصر لا بد أن يثمرهم. وقد تهيأت تلك الأسباب ـ فى نظره ـ حسبما لخصها فى فصول الكتاب.
ومن الطبيعى كذلك أن تختلط أخبار بعضهم ببعض، فهم جميعًا عشاق، ومن أهل الحجاز وما حوله، وأبناء عصر واحد، ينظمون بلغة واحدة، وينسجون على طريقة واحدة.
ومن الطبيعى لذلك أن تحتمل أخبارهم المبالغة، حيث تكون مقرونة بشهرة كل «بطل» فى كل باب من الأبواب، ونلمح ذلك فيما أضيف للإمام على بن أبى طالب حتى صوره البعض أنه حارب الجن، ونراه فيما أضيف إلى أخبار حاتم الطائى التى تصوره قد جاوز الكرم إلى حد السفه، ونراه فيما أضيف لأبى نواس من جعبة الظرفاء أصحاب الملح والنوادر.
ومن الطبيعى كذلك أن تتناقض أخبارهم، لأنهم شخوص طبيعيون يتعرضون للتناقض والتشابه والمبالغة.
أما جميل بن معمر، أو جميل بثينة، فهو أقربهم إلى الطبيعة فيما يرى الأستاذ العقاد، فهو لا يتفق له وجود ـ حيث وجد ـ إلاَّ على الصورة التى تجملها قصائده وأنباء رواته، وعلاقته المستقيمة بمعشوقته بثينة على النحو الذى ينبغى أن تستقيم عليه.
وأخيرًا يبدى الأستاذ العقاد فى هذا التمهيد، أنه عنى بالتوفيق بين البواعث النفسية والعوامل الطبيعة فى سيرة جميل وبثينة، لنفهم الأدب على مصباح من علم النفس ومن حقائق الطبيعة.