من ممالك الشيزوفرانيا.. لما بعد تمزقات ثورة يوليو
تتطور الثورات، كضرورة سياسية مجتمعية، إذ لو بقيت على بواكيرها الأولى.. لتجمدت واندثرت، ذلك منذ «كوميونة» باريس للثورة الفرنسية 1789 حتى الجمهورية الخامسة «ديجول 1958»، ومنذ الثورة البلشفية الروسية «1917 الستالينية -اللينينية» لما وراء الستار الحديدى السوفيتى حتى الستينيات.. ومنها إلى «الانفراج المحدود وغير المحدود» مع الغير فى السبعينيات.. إلى «البيروسترويكا» و«الجلاسونست» منتصف الثمانينيات، وانتهاءً بـ«روسيا المنفتحة غير الأيديولوجية 1992»، كذلك الأمر بالنسبة للثورة الإيرانية عن مختلف الأطياف السياسية 1979، من ليبراليين إلى حزب «تودة» الشيوعى، قبل أن تصل إلى حكم «الملالى».. «فولاية الفقيه»، وما إلى غير ذلك من ثورات على مرّ التاريخ، ليست ثورة يوليو المصرية 1952 -استثناء- ذات الطليعة العسكرية التى حصلت من الحراك الوطنى على الضوء الأخضر لقيامها.. كى تنتقل بالبلاد من حقبة تاريخية ممتدة من الحكم الأجنبى.. إلى إعلان «الجمهورية» نظامًا سياسيًّا لها 1953 قبل أن يتبادل ثوارها من المصريين الأقحاح مقاليد الحكم- بالاستفتاء- لنحو ستة عقود، إلى أن دقّت الأكفّ على باب مصر 2011 – 2013.. لتجريب انتخابات رئاسية متعددة لأول مرة على مرّ العصور، إذ لم تك لحظة تاريخية عابرة بقدر كونها نقلة مفصلية إلى جمهورية جديدة.. تنبنى على إيجابيات أولاها، وما سبقها من عهود، كما وتلافى سلبياتهم، ما يمثل ضرورة بنيوية للتوافق مع ما يستجدّ من متغيرات، سواء بالنسبة لأوضاع مصر الداخلية أو لما يتصل بتطورات إقليمية ودولية تدعو إلى مراجعة تحركات سياستها الخارجية، وعلى غير ما كانت عليه فى العقود السبعة الماضية.
لقد كان من الطبيعى فى مطلع الخمسينيات أن تلتقى أهداف كل من حكام مصر الجدد مع الولايات المتحدة الأميركية للتخلص من النفوذ البريطانى، كلٌّ لأسبابه، كما لاتفاقهما فى الحيلولة دون التغلغل الشيوعى فى مجتمع فقير- كمصر- تمتلك «مائة أسرة» الثروة والنفوذ (وفقًا لما جاء بمذكرات د. بطرس بطرس غالي)”، وحيث كان اللجوء من ثم- تراتبيًّا- إلى تحديد الملكية، والمصادرة، والتمصير، والتأميم، إذ ساعدت تدفقاتهم ضمن نجاح أهداف الخطط الخمسة للتنمية، إلا أن الخلاف نشب بين القاهرة وواشنطن، وتشعّب، بشأن تباين مواقفهما من تسوية الصراع مع إسرائيل، ما أدى إلى تورط مصر فى الحرب الباردة بين القوتين العظميين، لا ناقة فيها ولا جمل لقوة إقليمية بين إمبراليتين كبيرتين، ناهيك عن استدراجهما المنطقة إلى حرب باردة عربية- عربية وصلت أحيانًا إلى حد المواجهات المسلَّحة التى أملتها عوامل الغيرة الدبلوماسية نحو الزعامة ما بين تطرف ثورى قاصر من ناحية، والتماهى المُخل فى الفلك الإمبريالى من جانب آخر، مرورًا بعصر من سنوات التصدى انتهت تعقيداتها فى أكتوبر 1973 بعودة مصر إلى الفلك الغربى، ولسياساته الانفتاحية التى صبغت، على النقيض، ما كانت عليه سياسة مصر الداخلية والخارجية طوال الخمسينيات والستينيات التى ميزت ما يمكن أن يطلق عليها «الجمهورية الأولى».. لكن دون التخلى فى عقودها التالية عن بأس ترساناتها القانونية والأمنية والبيروقراطية، التى ظلت توجه جمهوريات مختلفة السمات ليست غير (ثورية).. إلى أن دهمتها فوضويات الربيع العربى 2013 -2011، إيذانًا بنذر تلوح فى الأفق نحو سمات جمهورية جديدة يتوازى ظهورها مع متغيرات دولية وإقليمية ومحلية، تختلف عما كانت عليه طوال النصف الثانى من القرن العشرين، إذ غابت عن الساحة الدولية كل من الصراعات الأيديولوجية حول ما كانت تسمى «الاشتراكية العلمية»، ولصالح «الديمقراطية الاشتراكية»، ومشتقاتها، كما أصبح الصراع بين القوى الكبرى- جيو اقتصاديًّا- بين دول منفتحة على اقتصادات السوق الحرة، أى لم يعد ما يحول بين مصر وحسابات توازناتها الدولية إلا بالقدر الذى يحفظ لها فحسب كلًّا من استقلالها ومصالحها، وبما يرفع عن كاهلها تداعيات الانحياز لهذا الطرف دون الآخر، خاصة بعد انحسار ظاهرة القطب الواحد لصالح التعدديات القطبية (..)، أما على المتغيرات على الصعيد الإقليمى، وفى مقدمته ما يتصل بطبيعة العلاقات مع إسرائيل من سلام ليس غير بارد بالمطلق، تتواكب معه تسويات عربية (إبراهيمية) للتطبيع، لكن دون التوصل إلى حل نهائى للمسألة الفلسطينية؛ قضية العرب المركزية، ما يجعل السلام هشًّا من غير المستبعد النكوص عنه، حال استمرار إسرائيل فى مراوغاتها إليه، سعيًا لإنجاز الغايات العليا «غير الواقعية» للمشروع الصهيونى، ما يستوجب من مصر الأخذ بأسباب القوة الاقتصادية والعسكرية لمواجهة حالات التنافس القائمة من جانب الجارات الإقليميات غير العربيات (..)، الأمر الذى يرتبط بتقدم عملية إعادة البناء الداخلى بعد سنوات ممتدة -تاريخيًّا- من الاضطراب، وعن انعكاساته المطردة بالسلب على الجبهتين الإقليمية والدولية، سواء من حيث العمل على تحجيم مخاطر تنظيمات التأسلم السياسى أو فى صدّ الموجة الإرهابية التى اجتاحت العالم العربى، ناهيك عن دورها المنفرد فى معالجة المواجهة الفلسطينية- الإسرائيلية (الأخيرة)، إضافة إلى تحركاتها الواعية فى كل من الحالتين الليبية والسورية، وإزاء دول الطوق الإثيوبى، وليس آخرًا عن القمة المصرية- العراقية- الأردنية، بكل زخمها وآفاقها، ما سوف يحسم هذا الصعود الإقليمى لمصر- معضلة مستقبل العلاقة المتسمة بالغموض مع الولايات المتحدة بصفة خاصة، وللسياسة الخارجية على وجه العموم، سواء على الصعيد الإستراتيجى أو المعنوى.
إلى ذلك، كم هى المهمة عسيرة لبناء جمهورية جديدة، تتوزع مداميكها بين ممالك الشيزوفرانيا التاريخية الغابرة، وبين تمزقات الجمهوريات المعاصرة 1952 – 2011، بين معالجات لمعضلات مزمنة عبر العصور.. وبين شظايا متبعثرة لا تتجمع إلا لتتفرق من جديد بين المتقابلات والمتناقضات، فيما بات التطلع للهدف فى تشييد جمهورية جديدة يمثل ضرورة وطنية ومعنوية، لجهة الارتقاء بأضلاع التنمية الشاملة، سياسية- اقتصادية- اجتماعية.. وثقافيًّا، حيث يعلو القانون ولا يُعلى عليه.. دون الرِّدّة إلى ملكيات غير دستورية من صُنع الأجنبى، لأغراضه، ولا فى العودة إلى جمهوريات أوتوقراطية، مقاليدها بيد الحاكم الفرد، ولغير احتكارات تتزاوج من خلالها السلطة والثروة، ومن دون مصادرات أو تمصير أو تأميم، وبلا قفزات سياسية استعراضية (شكسبيرية) لغير صالح جماعية القيادة، وليس آخرًا بإغلاق أبواب الفساد والإفساد.. إلخ، وعلى أن تملك الجماهير- من قبل ومن بعد- وعيها الاجتماعى والسياسى.. دون التخلى عنه تحت شعارات ديمقراطية (خادعة)، إذ عندئذ سوف يتحقق فائض أولى بالموازنة.. إلى توطين التصنيع.. مع زيادة رقعة الأرض الزراعية، وتحديث القرية، والارتقاء من ثم بمنحنى الشرائح البورجوازية العاملة، إلى التوسع فى المشروعات الصغيرة والمتوسطة ومتناهية الصغر، بجانب توثيق التمويلات التنموية (دبلوماسية التنمية)، ما سوف يكفل حالة مستقرة من التوازن الاجتماعى والنفسى لطبقات منسحقة عانت طويلًا، ذلك فى ظل نظام ديمقراطى حقيقى تباشر مصر من خلاله أدوات القوة الناعمة فى سبيل الوفاء بمتطلبات الدور الداخلى والخارجى لجمهورية جديدة فتيّة.