جمال عبد الناصر.. تفكير بعد خمسين سنة.. (4)

جمال عبد الناصر.. تفكير بعد خمسين سنة.. (4)
طارق عثمان

طارق عثمان

6:43 ص, الأحد, 11 أكتوبر 20

جوهر المشروع

إذا وصلنا إلى إننا أمام مشروع وليس تجربة (راجع الجزء 3 من هذه السلسلة)، فالسؤال التالى هو: إلى ماذا كان يهدف هذا المشروع؟

الفكرة الجوهرية وراء كل التحركات السياسية فى العالم العربى (وآسيا وإفريقيا) منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية كانت: التحرر.

التحرر من الاستعمار الأوروبى، ولكن أيضًا من الهياكل السياسية والاقتصادية والأمنية التى ظهرت فى إطاره وعملت معه واستفادت من وجوده. هذه نقطة مهمة لأن مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية بدت ذاهبة طبيعيا نحو تراجع للدول الأوروبية وانسحابها من أغلب مستعمراتها. ليس فقط بسبب المشاكل الاقتصادية الكبرى التى مرت بها أوروبا بعد الحرب، ولكن أيضًا، وربما أهم، لأن إرادة إبقاء الإمبراطوريات كانت فى تراجع وضعف فى كل أنحاء أوروبا، بما فى ذلك فى بريطانيا وفرنسا.

ولم يكن ذلك سراً. بل بدا واضحاً من خلال نتائج الانتخابات، بسقوط أهم الأحزاب اليمينية المحافظة فى أوروبا، وصعود قوى اليسار التى كانت فى أغلب الأحوال ضد المفهوم الإمبراطورى لدولها (وذلك مرتبط بالاقتصاد السياسى لهذه الدول نفسها، وهى من قبل ومن بعد، دول ذات مجتمعات طبقية).

ذلك ما دفع حركات سياسية مختلفة فى آسيا وأفريقيا، بما فى ذلك فى العالم العربى، إلى أن تندفع ولديها تصور أنها، بإمكاناتها المحدودة قادرة على أن تنتصر على الوجود الاستعمارى فى بلادها. ولعل هناك قولاً دالاً منسوباً إلى رئيس الوزراء الإيرانى محمد مُصدق (وهو من قاد محاولة تأميم البترول الإيرانى وإخراجه من السيطرة البريطانية) أنه «يسمع أنين الأسد» (والأسد هنا كناية عن الإمبراطورية البريطانية).

لكن تلك الحركات السياسية كانت تتصور أن الانتصار على الوجود الاستعمارى خطوة أولى، بعدها خطوات أخرى، أهمها الخروج من سيطرة الهياكل الداخلية التى شكلت مع المستعمر قوة الحكم.

قد تبدو هذه النقطة طبيعية ومنطقية.. ولكنها واحدة من المشكلات الرئيسية فى النظر إلى مشروع جمال عبد الناصر.. ذلك أن ضرب أجزاء كبرى من الطبقة العليا المصرية وتفتيت قوتها الاقتصادية، كان له أثره، ليس فقط على الوضع السياسى فى مصر، ولكن ايضاً على التنمية.. والتنمية كانت الفكرة المحورية الثانية بعد التحرر.. ذلك أن الطبقة العليا المصرية وقتها كانت علميا وثقافيا ومن خلال الاتصال بالفكر والتقدم فى العالم أكثر المؤهلين لإدارة مشروع تنمية حقيقى له فرص نجاح جادة. ضرب هذه المجموعات وإنهاء مراكز قوتها أديا إلى حرمان الدولة من لفيف من أفضل العقول والقدرات فيها. والذى حدث فعلاً أن الجزء الأكبر من (إذا لم يكن كل) هذه المجموعات خرجت من دوائر إدارة الدولة، وبعضها خرج من الدولة كلها إلى الخارج.

إحدى المعضلات الرئيسية فى قراءة التاريخ بعد عقود، هو رؤية الأمور بعيون ما قد حدث، وليس بعيون اللحظة التاريخية وقتها. ولعل هنا نقطة اختلاف كبرى بين تقديس جمال عبد الناصر وإدانته (راجع الجزء الأول من السلسلة). ذلك أن جزءًا من تقديس الرجل يكمن فى ولائه الدائم للطبقات الفقيرة والدنيا الوسطى، كما يكمن فى كبريائه الذى رفض أية مساومات كبيرة مع الغرب.. لكن أيضًا جزءًا من إدانته يقوم على عدم تقديره لمناطق الضعف الكبرى فى العقول والقدرات التى أحاطت به (والعيب ليس فى هذه العقول، ولكن الضعف كان نتيجة لمحدودية تجربتها واطلاعها ومعارفها). كما أن أيضا جزء من المشكلة هنا يكمن فى عدم تقديره لحجم الخسارة لمشروعه (وبالطبع للبلد) من فقدان اتصال جاد وحقيقى مع مواطن العلم التنفيذى (وليس النظري) والكفاءة والتقدم فى الغرب.. ولعل هذه النقطة كامنة فى جوهر اختلاف تجربة مصر (ومن بعدها عدد من الدول العربية) عن تجارب دول مثل كوريا الجنوبية (كانت فى بدايات الستينات فى مستويات اقتصادية واجتماعية مع أو أدنى من تلك فى مصر).

إذن إذا كان جوهر المشروع هو التحرر ثم التنمية، وإذا كان للتحرر وقتها معان مختلفة، وكانت له تبعات مختلفة (بما فى ذلك على التنمية)، فالسؤال التالى يكون: كيف تبلور مشروع جمال عبد الناصر فى بداياته ليمزج التحرر والتنمية – أو ما تصورهما كذلك؟

* كاتب مصرى مقيم فى لندن