إزاء التنافس المطّرد بين الولايات المتحدة وكلٍّ من روسيا والصين.. بغية تسيّد النظام الدولي، يدور السجال بين واشنطن وبكين لمحاصرة الأخيرة داخل مجالها الحيوى حول منطقة بحر الصين الجنوبى فى إطار ما يُعرَف بالمحور الآسيوي Asian pivot.. ، ما يهدد بصدام مباشر بين قوتين عظميين حريصتين على تجنب مخاطره، كلتاهما فيه خاسرة، كما يدور السجال من جانب آخر بين واشنطن وموسكو حول منطقة شبه جزيرة القرم فى الإطار الأوراسى للفضاء السوفيتى السابق، ما يهدد بصدام مباشر بين أكبر قوتين نوويتين يبذلان أقصى درجات الكياسة الدبلوماسية لتجنب مخاطره على الأمن والسِّلم الدولي، ذلك فيما تمثل منطقة الشرق الأوسط مسرحًا ثالثًا للعمليات السجالية بين ثلاثتهم- الأعظم عالميًّا- سواء على الصعيد الجيوسياسى أو النفطي.. إلخ، لكن دون احتمال تطوره إلى صدام مباشر (حرب أكتوبر 1973 مثالًا) نظرًا لمباشَرته من خلال الوكلاء المحليين، بالإنابة عن القوى الكبرى، ما يُغنيها عن التعرض لتوابع الحرب المباشرة حال نشوبها بين «الوكلاء»، وإن كانت نتائجها تصبّ فى النهاية لصالح هذا الطرف أو ذاك، ما ينعكس من ثم على أوضاعهم، سواء فى منطقة آسيا- المحيط الهادى أو على المحور الأوراسي.. اللذين يُعتبران من أهم مناطق العالم إستراتيجيًّا واقتصاديًّا خلال القرن 21، بحيث إذا افترضنا صحة ما سبق وهو صحيح فى مجمله- فمن المتوقع لمنطقة الشرق الأوسط أن تشهد فى السنوات المقبلة حلقة جديدة من الصراع الساخن على الصعيد الدولي، تمارس فيه أطرافها الإقليمية أدوارًا رئيسية، خاصة فى إطار تشديد الإدارة الأميركية الجديدة 2021 على «عزمها» إعادة بناء تحالفاتها.. مع تعهد «بايدن» بالتصدى لما سمّاه «عدوانية» الصين وروسيا، ذلك فيما تتطلع أطراف شرق أوسطية معنيّة بالتحالف مع واشنطن إلى العمل مع إدارة «بايدن»، بأقلّه؛ لتجنب ابتزازاتها فى مسائل حقوق الإنسان أو عبر اتجاهها للحوار الصعب (النووي) على طرفى نقيض مع إيران، ما يجعله- وغيره- من الصعب استكشاف اتجاه الحركة التى يمكن أن تأتى منها التغييرات المقبلة.. سواء فى الدفع بعملية السلام فى الشرق الأوسط أو بالنسبة إلى حل النزاعات وتحقيق الاستقرار فى لبنان، وسوريا، والعراق، وأفغانستان، واليمن، ومنطقة القرن الأفريقي، ودول الساحل، ومن مواجهة التطرف والإرهاب، إلى العمل على استقرار الأسواق النفطية والمالية.. إلخ، وكلها مجالات لمصالح حيوية لكل من روسيا والصين، إلى جانب الولايات المتحدة، ناهيك عن الدور الذى تُباشره المشاريع التوسعية للإقليميات غير العربيات لصالح تحالفاتها الأجنبية من ناحية، ولعدم استقلال القرار السياسى لدول الإقليم، بسيان، ما سوف يؤدى مجددًا إلى نشوب حروب باردة عربية- عربية- وإقليمية.. على غرار ما جرى فى النصف الثانى من القرن العشرين، إذ تبدو ملامحها الأولية ما بين الولايات المتحدة- وفى معيّتها إسرائيل- وبين إيران- فى معية روسيا والصين، فيما يبدو من محور حقيقى بين موسكو وأنقرة.. وعن مدى إمكانية استمراره من عدمه نظرًا للمنافسة القائمة بينهما، ذلك دون استثناء مصير العمل العربى المشترك، المفترض قيادته من جانب مصر والسعودية.. وعن مدى تلازم سياستيهما الإصلاحية مع القبول من عدمه بالتطويع الأميركى المحتمل لهما (الديمقراطية وحقوق الإنسان- التصالح مع قطر- التواصل مع أنقرة- الحوار حول «اقتسام النفوذ» مع إيران- غموض مستقبل القدس.. إلخ، وما إلى غير ذلك مما سوف تفرضه واشنطن على الرياض من واقع ثمانية عقود من التحالف غير المتكافئ بينهما، وفى ظل عزم الإدارة الأميركية على «العودة إلى قيادة العالم.. لا الانسحاب منها»، ولما يخدم أهدافها فى السجال المتنافس مع روسيا والصين من حيث قطع امتداداتهما الإستراتيجية فى الشرق الأوسط وأفريقيا، بوصفها تمثل – وفق تعبير «بايدن» – «تحديًا من نوع خاص مع الصين»، وهى التى تبحث بدورها عن مجال نفوذ أكبر تحدده التكنولوجيا أكثر من الجغرافيا، كما للربط بينها مع البلدان عبر أوراسيا وخارجها، فضلًا عن مشروع طريق الحرير الرقمى (مبادرة الحزام والطريق)، كما تعمل بكين على توفير المُعدات عالية التقنية لربطها بصورة وثيقة مع الأنظمة البيروقراطية التى تساعدها الحكومة الصينية، ما يقارب العودة مجددًا إلى حالة الانقسام بين الشرق والغرب إبان حقبة الحرب الباردة التى تحولت فى عالم اليوم لتكون على الصعيد التكنولوجى أقرب إلى المنافسة بين شيخوخة أميركية عمرها 250 عامًا، استهلكت عنفوانها فى مغامرات عسكرية على مدى قرن من الزمان، وبين فُتوّة صينية يعود تاريخها الحضارى إلى 5000 عام، فيما تفضّل انتهاج الدبلوماسية الهادئة دون أن تطلق رصاصة واحدة منذ حربها الأخيرة مع الهند قبل نحو خمسة عقود، إلا من مساعٍ مشتركة بين البلدين نحو تجديد وفاقهما العظيم، على غرار ما كان بينهما منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي، وبافتراض أن عدوّهما هو ثالث الاثنين (روسيا)، التى تتعرض بدورها من بعد انتهاء الحرب الباردة نهاية الثمانينيات لغير صالحها.. إلى منهجية إستراتيجية أميركية بشقّيها الجمهورى والديمقراطي، فى مواجهة ما تعتبره الخطر الروسى كما لو أنه على نفس الغرار الذى واجهت به الخطر السوفيتي، ما دعا موسكو فى العقد الأخير للتحرك من أجل ملء الفراغ فى الساحة الدولية، وفى العودة إلى الشرق الأوسط كحقيقة سياسية وعسكرية ثابتة ذات علاقات متنوعة مع الدول الرئيسية داخل الإقليم، حتى بين الدول التى بينها وبين البعض الآخر حالاتُ عداء، ذلك فيما يقال عن علاقة فتور بين الرئيسين الروسى والأميركي، منذ لقائهما فى موسكو- كنائب للرئيس الأميركى فى 2011 – إذ يقول له «بوتين» – بحسب ما تواتر عنه – «إننى أنظر فى عينيك ولا أعتقد أن روحًا لديك»، إلا أن هذه العلاقة الفاترة بين البلدين والرئيسين لن تصل إلى مستوى الصدام بينهما.. إلا من حيث وقوف واشنطن (والعكس صحيح) بوجه الطموحات الروسية (تسليح أوكرانيا- امتداد الناتو شرقًا – توصيف الوضع فى سوريا بـ«المحرقة»- تشديد العقوبات- إثارة مسائل حقوق الإنسان- إعادة التحالف مع الأوروبيين فى مواجهة موسكو- التدخل فى المناطق الساخنة داخل الفضاء السوفيتى السابق خاصة بين الشقيقتين السوفيتين السابقين روسيا وأوكرانيا)، وما إلى غير ذلك مما يَصعب معه العودة إلى سابق الانفراج العام ما بين حذر روسى لمخاوف مشروعة من مخططات أميركية مع الأوروبيين لتقويض النظام الروسى اللا ليبرالي – من وجهة نظر الغرب إزاءها، ولمواجهة الصين، بسيان.
خلاصة القول، كلما تصعدت حدّة السجالات بين الغرب والشرق، فى مجالات الصراع الحيوية، بالتوازى مع حرصهما على تجنيب مخاطر الصدام المباشر بينهما، تبقى منطقة الشرق الأوسط بمثابة الفِناء الخلفى لصراعاتهم من خلال توظيف الوكلاء المحليين كى يتلقّوا بالإنابة عنهما سهام الحرب وتعقيداتها، وحيث تظل جائزة الشرق الأوسط معلّقة إلى أن تُحسم لصالح أيٍّ من القوى العظمي.