مظاهرات لبنان الاحتجاجية أكتوبر 2019، ليست غير مسبوقة، فقد تعددت أسبابها منذ الاستقلال منتصف الأربعينيات، لكن من دون تحديدها الهدف النهائى لمعالجة أوضاع بنيوية مزمنة، سياسية ومجتمعية (..)، لا تقتصر بالسلب عليه فحسب، بل تنعكس كذلك على سائر المنظومة العربية، كون لبنان رغم محدودية مساحته.. مركز الفكر السياسى العربى، بسبب طبيعة تركيبته السكانية. وديمقراطيته التوافقية، بحيث بات يمثل الفائض السياسى والطائفى والجغرافى لمشاكل المنطقة وأزماتها المتنوعة، لا تزال جذورها قائمة لاستنادها على «المحاصصة» السياسية والطائفية، باعتبارها الحل والمشكلة فى آن، خاصة فى ظل ما أفرزته لما يمكن أن يطلق عليه «الإقطاع السياسى العائلي»، يحول دون انطلاق البلاد بما يتناسب مع عبقرية شعبها.
ولما كان معظم النار من مستصغر الشرر، فقد تسبب فرض الحكومة ضرائب إضافية (طفيفة) على بعض استخدامات شبكة التواصل الاجتماعى.. لتدفق المظاهرات الاحتجاجية إلى الشوارع، سرعان ما تجاوزت رفع الأسعار.. للتطرق إلى إدانة ظواهر الفساد الشائعة- غير المجهولة- فى أروقة الحكومة، ولدى الشرائح الاجتماعية والحزبية المتحلقة من حولها، ذلك قبل أن تتطور مطالب المحتجين للدعوة إلى إسقاط النظام برمته، كهدف مسكوت عنه ظل متوارياً عن الغايات النهائية للثورات اللبنانية السابقة، وعن حراكاتها الشعبية التى تبلورت أخيراً بشكل شبه جماعى.. من دون إعلاء أى شعار طائفى أو رفع أعلام حزبية، إلا من العلم اللبنانى فقط، فيما امتدت المظاهرات إلى جميع المناطق.. بهدوء ورقى وصلابة، دعت السلطات الأمنية إلى حمايتها، كما تجاوب الجيش مع مطالبها فى التغيير، ما أربك الأحزاب عن مواجهتها، سواء الثنائى الشيعى أو الكتائب أو القوات اللبنانية.. إلخ، تجنباً للتصادم مع المتظاهرين «المستقلين»، بعشرات الآلاف، كانت وراء إحجام «حزب الله» عن المضى فى تهديداته النزول للشارع دفاعاً عن النظام والعهد (المرتهن بنفوذه)، الأمر الذى دعا بعض أنصار الحزب وحلفائه إلى معارضة التصاقه بالرئيس «عون»، والحكومة، إذ إن المظاهرات الاحتجاجية الراهنة التى تعم أنحاء البلاد، جدّ مختلفة.. من حيث تجاوزها لما كان يعتبر «مقدسات سياسية»، بما فيهم «نصر الله»، خاصة بعد انحياز الجيش إلى جانب المطالبين بتغيير النظام السياسى، غير الديمقراطى من وجهة نظرهم.. إلا فى ظاهره، إذ تنظمه فى الحقيقة «المحاصصة» بهدف الحفاظ على استمرار احتكار قوى «الإقطاع العائلي» والاجتماعى على السلطة والثروة «معا» دون أى تغيير، ربما فى حالة مماثلة لما كان فى مصر قبل 1952، حينما كان جُل أمر مقاليد البلاد فى عهدة «مائة أسرة»، وفقاً لما جاء بمذكرات د.بطرس غالى كواحد من أعضاء المائة أسرة، وتماماً مثلما وقف الجيش فى الحالتين المصرية واللبنانية إلى جانب الانتفاضات الجماهيرية المصيرية، كجيش الشعب.. تزيح مصفحاته جانباً ما يحول بين الجماهير المسحوقة والمرور إلى مراكز التجمع الثورى، مثله كأرقى جيوش العالم التى تتحلى بشرف الأخلاقيات العسكرية الاحترافية، ذلك فيما حلفاء العهد المتهاوى مثل خشب مسندة من فرط قدم أزمة لبنان إلى أن فاض الكيل بها، وبأهله وزمانه، تتحول- كالحاصل راهناً- إلى غضبة فاصلة سواء على كل المؤسسة الحاكمة أو على ثقافة الحكم التى أسلمت البلاد لأن تتناوبها قوى إقليمية ودولية، ووكلاؤهم المحليون، هيهات الخلاص منهم إلا من خلال ثورة جدّ مختلفة تفتح الطريق لصيانة الوطن.