عهود روسيا الثلاثة.. وللوجه الواحد
لم تصبح روسيا «المجزأة» دولة عظمى إلا من خال الاستمرار والتغيير، صنعت بهما مجدها الحالى- كإمبراطورية- تواصلت عصورها المختلفة.. من «القيصرية» قبل نحو ألف عام.. إلى «السوفيتية» 1917 – 1992 .. ومن بعدهما إلى روسيا «المنفتحة» لثلاثة عقود تالية إلى اليوم، إذ تميزت عبر هذه الحقبة الزمنية الطويلة- بما تثيره من استجابات دبلوماسية غريبة ومتعارضة، كانت ولا تزال- الأكثر وضوحاً- فى أهدافها البعيدة للهيمنة عن أى بلد آخر؛ خاصة بالنسبة للسياسة الخارجية، إلا أنه غلب على تصرفاتها اليومية التضارب والتقلب والغموض، تمليها- ربما- طبيعة الدب الروسى فى اختباره الحذر مدى تماسك طبقات الجليد تحت قدميه.. قبل أن يخطو بهما إلى الأمام، إذ هكذا كان الاتحاد السوفيتى.. كروسيا القيصرية من قبله، ومن بعده إلى «الاستثناء الأوراسى».. راهناً، كأوسع إمبراطورية متصلة عبر قارتين (تضم نصفهما) على امتداد العالم كله؛ ما يجعل لها أطول الحدود- وأخطرها- مع كل من آسيا وأوروبا، تمثل موطن قوتها وضعفها فى الحقل الدولى، تتوسطها «موسكو المركزية» التى وحدت صيرورة روسيا المجزأة فى دولة واحدة- لا تزال-.
ما سبق يمثل مدخلاً ضرورياً لفهم جذور وحاضر أوضاع روسيا الداخلية، وتحركاتها الخارجية، بسيان، وما يفسر تمكنها- مثالاً- بعد نحو ثلاثة عقود من ثورتها فى 1917، ورغم عداوات الغرب لها أن تنتصر لنفسها- ولأوروبا- فى مواجهة كل من النازية الألمانية.. والنزعة العسكرية اليابانية، فإن وفاة «ستالين» 1953.. أدى إلى تراجع ما كان يؤمن به الأخير- أبعد من خلفائها التاليين- بأن «المركزية السياسية شرط أمنها النفسى»، وكما أدى رحيل الحاكم الفرد من ناحية أخرى إلى تحريك عوامل سياسية إلى الأفضل.. داخل النظام السوفيتى، سواء فى سلطة صناعة القرار (جماعية القيادة)، أو بالتعايش السلمى مع الآخر- فى كل من دول الستار الحديدى التى تشكل سياج المعسكر السوفيتى.. أو فى خارج إطاره مع دول الغرب.. والنظم البرجوازية الوطنية الحديثة فى العالم الثالث (خروشوف)، ما مثل فاصلاً بين عهدين، بين المركزية الاحتكارية للسلطة من جانب.. وبين لا مركزية التحركات الخارجية للاتحاد السوفيتى عن «الثورة الأممية العالمية» من جانب ثان، الأمر الذى انعكس سلباً – بالتأثير التراكمى- من منتصف الخمسينيات إلى مطلع التسعينيات فى القرن الماضى، ليهدد بقاء الدولة السوفيتية التى تفككت امبراطوريتها 1992إلى دول «الكومنولث الروسى» بقيادة «موسكو المركزية»، التى تسعى منذ ذلك التاريخ- ولثلاث عقود تالية- إلى استعادة دور مهيمن على الفضاء السوفيتى السابق (الاستثناء الأوراسي)، لكن بأساليب أكثر مرونة، لا تستثير عداء الغرب مجدداً، وبالتوازى مع محاولة إيجاد «طريق ثالث» فى العلاقات الدولية، لا يسعى للاندماج مع الغرب (وغيره) لكن دون المواجهة بينهما، «معاً» لكن منفصلين، متفاعلين لكن ليس متكاملين، الأمر الذى لم يرق بطبيعة الحال للأميركيين.. من ذلك النهج الروسى فى الجمع بين فكرتين متناقضتين فى نظرية واحدة، يجوز وصفها اختصاراً باللاليبرالية، ولهدف حفاظ روسيا على استمرارية الماضى البيروقراطى مع نموذج الحكم المنفتح الجديد، ما يمثل نظاماً سياسياً معدلاً لتطور روسيا، كان من غير الطبيعى ألا يصطدم بـ«الأحادية الأميركية»، الأمر الذى شهدته قاعات مؤتمر التعاون والأمن الأوروبى 2006.. من هجوم الرئيس الروسى «بوتين» الخشن واللاذع للسياسة الأميركية فى العالم (ومع روسيا)، ربما بتأثير الثورات الملونة فى الفضاء السوفيتى السابق، ولمظنة تقديم الغرب غطاء للإرهابيين منذ 2004 (مذبحة بيسلان)، ودون استثناء المظاهرات الأخيرة 10 أغسطس 2019.. يشارك فيها- بغطاء أميركى ربما- مئات الليبراليين المزيفين ومن جموع البروليتاريا الرثة الحقيقيين، وما إلى ذلك- من سجالات – فى شبه جزيرة القرم، وفى منطقة الكاريبى، والشرق الأوسط، ولتتجه الأحداث لتعكس ملامح مواجهات مرتقبة بين روسيا وأميركا ربما تمثل حرباً باردة جديدة، لكن بقواعد مختلفة، ذلك فيما تعاود الصين مراجعة علاقاتها مع روسيا فى اتجاه مساعدتها للتغلب على مشكلاتها المالية الحالية.. وللعقوبات الاقتصادية عليها، وفى مجالات عسكرية وتقنية متقدمة، وحيث تصب مثل هذه التحولات الدراماتيكية إلى ما من شأنه، وفى سياق محاولات مبذولة جارية، لتأسيس ملامح نظام دولى جديد قد تتعدد أقطابه، ما يعكس دورة جديدة من تنقلات القوى الكبرى فى النظام العالمى، بمشاركة شبه دائمة لعهود روسيا الثلاثة.. ذات الوجه الواحد.