مع تعدد الأقليات العرقية المعاصرة فى الشرق الأوسط، ما بين الرغبة فى التعايش الإيجابى أو التحفظ الحذر فيما بينهم، تتطلع الأقلية اليهودية، فقراء الطائقة وأثرياؤها، كغيرها من الأقليات الأخرى لاستقلالها الذاتى، الا كونها الأبعد طموحاً.. بمقتضى توافق (الصفقة) بين أدبيات المشروع الصهيونى (التاريخى).. مع قوى الرأسمالية الاحتكارية الصاعدة فى غضون الثورة الصناعية منذ نهايات القرن 18، من أجل وبهدف تقاسم النفوذ والهيمنة على أقاليم العالم المختلفة، الأمر الذى تشرعنت صياغته بصورة مبدئية فى الشرق الأوسط بخاصة.. حين أعاد القائد المصرى «إبراهيم باشا» بعد فتوحاته لمنطقة الشام مطلع ثلاثينيات القرن 19.. فتح القنصليات الأجنبية من جديد فى مدينة القدس، التى توزعت مسئولياتها عن رعاية الأقليات (الكاثوليك- الأرثوذكس الشرقيين.. إلخ)، فيما بين القوى الكبرى (فرنسا- روسيا.. إلخ)، وحيث اختصت بريطانيا بحمائية شئون رعايا اليهود (والدروز) وإذ يصرح وزير خارجيتها «بالمر ستون).. بأهمية ألا تكون تلك المنطقة فى أيد غير صديقة لها، ولتمكن عبر الحدود الشرقية لمصر فى مطلع الثمانينيات – كدولة احتلال- من مرور موجات الهجرة (الييشوف، الأولى والثانية إلى فلسطين، قبل أن تصدر فى 1917 كدولة انتداب على فسطين بعد هزيمة الدولة العثمانية فى الحرب العظمى- «وعد بلفور»، بإقامة «وطن قومى لليهود» فى الأراضى الفلسطينية، ما فتح الأبواب على مصاريعها منذ ذلك التاريخ.. لاعتراك مسائل الحرب والسلام فى المنطقة، ولقرن تال من الزمان، لا تزال نذر إرهاصاتها معلقة فى الأفق.. ذلك فيما انقسم الساسة، كما الرأى العام العربى واليهودى، بين التوجه إلى التعايش السلمى (المرفوض من غالبيتهما)، أو الإقدام على الحرب التى اندلعت فى العام 1948 بين المهاجرين «من الهاجاناة» وجيوش عربية لم يكتمل بناؤها تحت ضغط الاحتلال، أفضت إلى الهدنة بينهما فى «رودس» 1949 – إلى حين- تطبيق القرارات الأممية بتقسيم فلسطين، لم تفلح فى أعقابها مبادرات أميركية للوساطة بينهما حتى منتصف الخمسينيات، مرورًا بحرب السويس على مصر من جانب كل من بريطانيا وفرنسا وإسرائيل، قبل إعطاء الضوء الأخضر الأميركى لإسرائيل بالحرب على ثلاث دول عربية فى 1967، كعلامة فارقة فى التاريخ الحديث للشرق الأوسط على أكثر من مستوى، سواء بالنسبة لتغيير طبيعة السياسة الإقليمية.. كما العلاقة بين الدول المحلية تغييرًا جذريًّا، وبين القوى الكبرى، ذلك فيما جهزت الحرب المسرح السياسي- بموجب القرار 242 عن مجلس الأمن- لعملية سلام امتدت بعد أن سكتت المدافع فى 1973، وإلى نحو نصف قرن تال- لا تزال سارية فى ضوء المستجدات التى نتجت عن حرب يونيو، إذ تعوق سياسة السلم الأشد صعوبة من طبيعة التصديات العسكرية أيام أن كانت عملية السلام محفوظة فى «الثلاجة» طوال الخمسينيات والستينيات، بحيث أصبحت أرقام ضحاياها لا يقارن بشىء عن ضحايا الحروب الأهلية فى الأردن 1970، ولبنان 1975 والجزائر 1994، والعراق 2003، وإبان الربيع العربى 2011 فى سوريا وليبيا واليمن، وليس انتهاء بسيناء منذ 2004 إلى أمد غير منظور، ذلك فيما يسمي رئيس تركيا نفسه «سيد المسلمين» وتتحكم إيران فى سياسات أربع عواصم عربية، فى الوقت الذى تنتظر إسرائيل بالقرب من مصبات نهري النيل والفرات، إلى أن يجئ إليها جثث خصومها من العرب فرادى.
لقد كان لحرب يونيو 1967 أثر سلبى على الرؤية العربية فيما يتعلق بالدور الأميركى، إذ كانت المعركة أميركية، وكان الأداء ثانويًّا وحده إسرائيليًّا، وكذلك على الاعتقاد العربى فى كفاءة الاتحاد السوفيتى وإمكانية الاعتماد عليه باعتباره حليفاً من القوى الكبرى، واعين لطبيعته المحدودة للقوة والمكانة فى السياسة العالمية، الأمر الذى كان لهذا الإدراك المتأخر دور حاسم فى تفكيك النزعة الراديكالية- خاصة فى مصر- خلال الفترة ما بعد 1967، إذ يصرح «عبد الناصر» فى نوفمبر بأن مصر تُجري مفاوضات مع الولايات المتحدة.. «إذ لا يمكن أن نسمح للغضب بتحديد سياستنا»، سواء كان ذلك عبر مناقشة المسئولين الأميركيين عن إمكانية الحل السلمى للصراع مع إسرائيل أو بالإبقاء على قناة الاتصال بين المخابرات المصرية ووكالة الاستخبارات الأميركية، كما يمكن القول إن لهذا الإدراك دوراً حاسماً كذلك فى إعادة النظر للتوجه الثورى للسياسة الخارجية المصرية فيما بعد السبعينيات.
إلى ذلك، فقد وقرت فى قناعة العرب، لدى الرأى العام السياسى والشعبى، نتيجة الحرب الأميركية- بقفاز إسرائيلي- على ثلاث دول عربية 1967، إلى صعوبة تحقيق التفوق على هذه الآلة العسكرية الجهنمية، خاصة مع رجحان التوازنات الدولية إلى جانب قوى الغرب.. التى تكفلت من سابق بزرع إسرائيل 1948 على حدود مصر الشرقية، والحريصة من بعد- بموجب الإعلان الغربى الثلاثى 1950- على ضمان أمنها واستمرار بقائها، ما سوف يدفع العرب، ومصر فى القلب منهم، للتفكير فى اللجوء إلى تجريب أساليب إجرائية قد تؤدى لتسوية سياسية للصراع مع إسرائيل، وممن هى فى معيتهم، كبديل ربما ليس غير مؤقت عن التمسك بالخيار العسكرى السابق تجريبه- لعقدين منصرمين دون جدوى، إلا ما سوف يحول بين العرب والخطو باتجاه التفاوض المباشر.. قبل تحقيقهم التعادل السيكولوجى بين المهزوم (افتراضًا).. والمنتصر (مجازًا)، فى حرب مضت دون كسر إرادة مصر.. العازمة على تجدد القتال (الثأري) كضرورة لتحريك إجراءات التسوية، ذلك على النحو الذى جرت عليه وقائع الحرب فى أكتوبر 1973، بلا غالب أو مغلوب بالمطلق، ما أتاح للولايات المتحدة التدخل دبلوماسيًّا «خطوة خطوة»، إلى صلب الأزمة، بهدف فض الاشتباك منذ 1974، إيذانًا بتوقيع اتفاق سلام فى 1979 بين طرفى الصراع الرئيسيين، فيما يتأكد للولايات المتحدة فى الوقت نفسه، وبعد ما يزيد على ست سنوات من التصدى مع مصر، استردادها سابق نفوذها الاستراتيجى التقليدى فى الشرق الأوسط.
(يتبع)