بمجيء رئيس الحكومة الإسرائيلية «بينيت» إلى مصر، بعد غياب عشر سنوات لنظيره السابق، قد يمثل مرحلة جديدة ربما تكون مختلفة عن مجمل سابقاتها منذ زيارة نظيره الأسبق للقاهرة لأول مرة «بيجين» ديسمبر من العام 1977فى الشهر التالى لرحلة الرئيس «السادات» الدراماتيكية إلى القدس المحتلة، إذ تلاحقت بعدها بسرعة بالغة الجولات الدبلوماسية بشأن عملية السلام، التى وقرت مقتضياتها فى أذهان المصريين، شعبيًّا وقيادة، منذ معركة 1967التى نالت بها إسرائيل نصرًا لا تستحقه، وإذ برغم تصميم مصر على الثأر- كضرورة وطنية ومعنوية- ولإزالة آثار العدوان، إلا أنها تيقنت حينئذ أن التصدى العسكري- فى ظل ميل موازين القوى الإستراتيجية لصالح إسرائيل، لا يكفى وحده، سواء لاسترداد حقوق الفلسطينيين المسلوبة منذ العام 1948كقضية قومية مركزية، أو سواء لإجبار الدولة العبرية نحو التخلى الصهيونى عن غاياتها العليا غير الواقعية، ومن ثم لم يكن من غير الطبيعى قبول مصر للقرار الأممى 242 فى نوفمبر 1967بما يشمله ضمنًا من الاعتراف بحق إسرائيل فى الوجود.. إلخ، ولتمضى منذ ذلك التاريخ جولات التفاوض «غير المباشر» بين الدولتين (الوسيط الدولى “يارنج”- الدول الأربع الكبرى- الوسيط الأميركى..)، وإلى أن قامت الحرب بينهما أكتوبر 1973، سرعان ما انتهت إلا وقد سعت القيادة المصرية للاستماع إلى الرؤى السلمية للصراع من جانب الولايات المتحدة، وفى معيتها إسرائيل، انتهاءً باتفاق السلام الموقّع بين الأطراف الثلاثة فى واشنطن مارس 1979، ولتمارس إسرائيل من بعدها سلوكها العدوانى المعتاد، سواء فى ضرب المفاعل النووى العراقى يونيو 1981 أو للمراوغة فى تطبيق الإطار الثانى لاتفاقيات «كامب ديفيد» الخاص بالفلسطينيين، ما رسخ الرفض العربى لمواقف القاهرة السلمية، وأنهكت قيادتها عصبيًّا.. حيث ارتد ذلك بالسلب على الداخل المصرى.. ما أدى إلى اغتيال الرئيس “السادات” أكتوبر 1981، لينتهى برحيله تجريب الاختيار المصرى الأول لعملية السلام مع إسرائيل.
مع تولى الرئيس «مبارك» مقاليد الأمور، كان عليه الاستمرار من أجل الاستقرار على سياسات سلفه أو المجازفة بخطر الارتداد عنها، إلا من خشية ثقل الضغط الأميركى، وفى معيته إسرائيل، على مصر، ما شجع إسرائيل إلى الحرب على لبنان يونيو 1982، وتدمير البنية العسكرية لمنظمة التحرير الفلسطينية.. التى سرعان ما عدّلت ميثاقها ومن ثم للاعتراف بإسرائيل نوفمبر 1988، وصولًا إلى مشاركتها المؤتمر الدولى للسلام فى مدريد 1991، الذى أوصى بالمبدأ التفاوضى “ثنائى المسار”، ما أفضى إلى توقيع اتفاقيتى “أوسلو” و”وادى عربة” بين إسرائيل وكل من الفلسطينيين والأردن، اللتين أسفرتا عن اغتيال رئيس الحكومة الإسرائيلية على يد متطرف يمينى 1995، تجمدت بعدها عملية السلام فى ظل حكم اليمين المتشدد الإسرائيلى لربع قرن تال، راوغ خلاله القيادة المصرية كثيرًا من واقع أن له اليد العليا بشأن الأساليب الإجرائية نحو السلام من عدمه، ومن دون التقدم للأمام ولو قيد أنملة لعملية السلام، إلى أن كانت آخر الزيارات العدمية المتغطرسة لكبار المسئولين الإسرائيليين (نتنياهو) إلى القاهرة 2010، لينتهى، والحال كذلك، تجريب الاختيار الثانى للسلام المصرى مع إسرائيل، باندلاع ثورات الربيع العربى فى 2011.
وباستثناء حكومة “الإخوان”، لعام كامل، حرصت خلاله، وبعكس أدبياتها القديمة، على تقديم تنازلات ضخمة (..) لإسرائيل فى معية الولايات المتحدة، لاسترضائهما، لولا أن قامت ثورة 2013 لتغيير الموازين، فى اتجاه دعم القدرات العسكرية والاقتصادية، وإلى إعادة ترسيخ هيبة الدولة المصرية، لكن دون المساس بمجمل العملية السلمية، أو المشاركة فى التفاهمات الدولية، بشأنها.. مع التمسك بثوابتها بشأن حقوق الفلسطينيين، من خلال المطالبة بـ”حل الدولتين” كأولوية مصرية للسلام فى الشرق الأوسط.
ومن واقع الندّيّة التى غابت عن مصر خلال تجريب اختيارها الأول والثانى للسلام مع إسرائيل، ولصالح الأخيرة، تبدأ إجراءات الاختيار الثالث للسلام من خلال قدوم رئيس الحكومة الإسرائيلى الجديد “بينيت” إلى شرم الشيخ 13 سبتمبر 2021، بعد إلحاح فى الزيارة من جانب نتنياهو لعشرة أعوام خلت، وحيث يتطلع الائتلاف الوزارى الهش للا
ستقواء بمصر، سواء فى مواجهة معارضيه فى الداخل أو بالنسبة لمحورية دورها المثبت أخيرًا لاستكمال عملية التسوية السياسية أو التوقف بها عند سلام بارد، لا يحول دون إمكانية استئناف الحرب كما يعجز عن صنع السلام النهائى، ناهيك عن جهودها لرأب وتقريب وجهات النظر بين الفصائل الفلسطينية لما يخدم قضيتهم، كامتداد لدورها التاريخى فى تبنّيها لنحو سبعة عقود خلت حربًا وسلمًا، وحيث باتت مواقفها أكثر وضوحًا بعد مواجهات مايو الماضى الأخيرة بين الجانبين الفلسطينى والإسرائيلى، ولأبعد مما كانت عليه فى السنوات الماضية، ما دفع المجتمع الدولى للاعتراف بأن لا حل لأزمة الصراع فى الشرق الأوسط دون الأخذ فى الاعتبار بوجهة نظر الدور المصرى فى تسوية المسألة الفلسطينية بناء على «حل الدولتين»، ما كان محل تركيز فى لقاء شرم الشيخ بشكل خاص لتمهيد الأجواء الملائمة للتسوية السياسية بشأنها، لولا التشويش tarnishing من جانب شركاء أو خصوم «بينيت» على نتائجها المتوقعة، ذلك بعد أربعة عقود من العلاقات السلمية غير الدافئة بين مصر وإسرائيل، كان ضحيته مستقبل القضية الفلسطينية التى ربما آن الأوان للتقدم بها نحو مفاوضات نهائية من خلال أفكار جديدة مطروحة ربما يمكنها- لو صدقت النوايا- أن تغير من واقع العداء السافر والجمود الحالى، إلى ما سوف يميز على الأرجح سمات تجريب الاختيار الثالث للسلام المصرى مع إسرائيل.