قديما قال ديكارت (أنا أفكر، إذن أنا موجود) ولكن هناك رؤية أخرى هى (أنا أحب، إذن أنا إنسان)!
كمواطن كونى يفكر ويقرأ ويبحث، أؤمن بأن الحب أعمق من أن يكون مجرد شعور بين ذكر وأنثي! فالحب طاقة إيجابية تغذى الإنسان وتجعله صالحا مع الله وإخوانه فى الإنسانية.
بهذا المعنى فالحب محور ينظم علاقة الإنسان بالحياة كلها. وكرجل قانون يهتم بالقواعد والقوانين الحاكمة لأى نشاط للإنسان ـ فالإنسانية الحقيقية هى نتاج الالتزام بالقوانين والقواعد ـ فقد وجدت أن طاقة الحب يحكمها قوانين أزلية أغلب مصادرها الأديان. والحب كطاقة مثله مثل الكهرباء، لها صور استخدامات متعددة ولكن مصدرها واحد، فلا أحد ينكر أن تناغم الإنسان مع الله والكون يسمى حبا، أن ارتباط الإنسان بالأنبياء والرجال الصالحين يسمى حبا، أن مواظبة الإنسان على الطقوس الدينية يسمى حبا، أن انتماء الإنسان لعائلته يسمى حبا، أن تفانى الإنسان فى عمله يسمى حبا.
هنا يأتى الإسلام كدين سماوى وثق الحب ووضع له قواعد وآليات تضمن حصول الإنسان على هذه الطاقة، فتجعله منيرا بكل العلاقات السابقة. أتى الإسلام برسالتين المحبة والسلام وهى الرسالة التى تحكم علاقة الإنسان بعلاقته مع ربه وكل مخلوقاته. فمن يحب لا يؤذي، لا يقتل، لا يخون، لا يخدع. من تكون شخصيته مُحبة يكون دائما نظيفا من الداخل والخارج، هادئا، معتدلا، ملتزم الرعاية والعناية بالمحبوب.
فطاقة الحب الحقيقى الإيجابية تغير من طبيعة الإنسان ليكون أفضل ومنيرا بعلاقته بمحبوبه. أتى الإسلام بقواعد عملية تنظم محبة الإنسان لله بالصلاة، ومحبته للبشر بالمعاملات، ومحبته للجماد بالحفظ والصيانة ومحبته للمجتمع بتنميته وتطويره.
عندما توصف بالفهم والتسامح والمغفرة، فأنت تعنى الإسلام وبالتالى تكون مُحبا حقيقيا، فالمسلم الصحيح هو المحب الحقيقي، والمحب الحقيقى هو مسلم بالطبيعة، فالإسلام دين الحب والمُحب والمحبوب. إن قواعد الصلاة والزكاة بالإسلام تمنح للمسلم (كمُحب) توازنا روحيا بعلاقته بالله ومخلوقاته وتوازنا ماليا بعلاقته بالمجتمع وإخوانه بالإنسانية.
فإذا كان الحب طاقة كونية وعالمية للإنسانية كلها، فالإسلام الحقيقى يمكن النظر له كعلاج روحى عملى لقلوب وأرواح البشر ـ بغض النظر عن ألوانهم ودياناتهم وجنسياتهم ـ والتمعن بالقرآن وقصة حياة النبى محمد، تثبت أن هناك دليلا عمليا لكيف نحب وكيف نكون إنسانا مُحبا .
ومن مدار الحب لمدار معية الله! فمع تقدم الأيام نكتشف أن سعادة القلب لا تكون إلا فى محبة ومعية الله سبحانه، وكل ما عدا ذلك فهو رحلة وراحة جوارحنا على الأرض.
هذه هى الحقيقة التى نكتشفها متأخرا مع تقدمنا فى العمر والاختبارات وعواقبها. مع الله معنى عميق جدا، لأن السعادة معنى غير محقق الوجود، إلا بالاكتمال ولا كمال إلا هو، فيكون بإدراكنا الناقص للكامل، وحاجته لتكميل نقصه من كماله، حالة من محاولات أحوال سعادة القلب.
فمعية الله تعالى لخلقه ثابتة بالكتاب والسنة، أما حس معية الإنسان لله، فهى هبة ورياضة لسليم القلب، صفى الروح، وصلتها الفروض كقانون للجوارح وبداية الصلة، ليصح شد الرحال فنتذوق تجربة الصفاء والتصفية.
فإذا كانت الفروض وصلا وصلة، ففروض الروح من إحسان ومراقبة وتخلية وتسليم، كقوة الإنترنت بينك وبينه والتغطية تامة، فيكون الإرسال تام الوضوح، لاستقبال حروف نعمة الوصل، فليس أقوى وأكمل من الإنسان كجهاز إرسال واستقبال لمدد الخالق ورسائل المخلوقات.
وقتها فقط تلمحك لحظة خارج الزمن، تكتشف فيها أن المُضغة التى بصدرك، نبت لها جناحان وقفصك الصدرى أصبح سماءً، رحت تُحلق فيها بهدوء متناغم، لترتفع اللغة ويتعطل الكلام ويبدأ سريان الفهم.
وقتها، تلتذ برنين الصمت اللامع على صفحة اذنك الداخلية، فلا تشعر إلا ودموعك بساط من استرحام، تتهادى عليه أخطاؤك، وتقدمها له واثقا من العفو وبسط المغفرة.
عندها، يكسو أجسامنا خمار من سكن وسكينة، فنحيا أيامنا سابحين بدقائقها وساعاتها، لتكون حركاتنا بالمكان انتقالا، وحديثنا وحيا، وفكرنا مناجاة!
فنستعصى على الحزن والاكتئاب والضياع، ونكون من مجاورين الفهم والعذر، نكون حقا بمملكة الله، بلا لحية أو نقاب أو سواك، لأننا ببساطة نحيا حقيقة أن بِنَا نفخة من روحه سبحانه، تحيل داخلنا إلى فلك تدور فيه، لتبدأ الرحلة وتُستكمل الدائرة، لنستوعب ذلك، فنتعايش معه، نصالحه بداخلنا، فتسلم الجوارح بالتبعية ولا تعرف إلا صحة الفعل والأداء.
كثيرا جدا نقضى حياتنا نسبح بين السطور ونغوص بالكتب، ونتوه خلف الرأى والرأى الآخر، وننسى المُضغة ونُغلب المخلوق على الخالق، لتنتهى حياتنا بمحاولة إيجاد راحة الجوارح وليس سعادة حب المعية!
ترقّى الصلة بحياتنا متصلة بجدية المحاولات، بتمسكنا بالتوبة بمعناها الحقيقى بالعزوف عن إغضاب الحبيب، وليس فقط اتقاء لعقابه! فغضب الحليم ليس كغضبنا! فقمة غضبه هى عدم رضاه، وعدم رضاه يؤدى لسحب دعمه، ودعمه بستره، وستره فى الرأفة بحالنا فلا ننكشف، لأن حقيقتنا مُرة وكشفه أمّر!
فلكل دخول خروج، إلا طريق الله، دخوله رزق وخروجه امتحان، فاحفظ رزقك بالمداومة واستعد للامتحان بالمجاهدة، فيلحق قلبك حالا من أحوال سعادته، تُحسب لك بالمحاولة وليس الوصول.
فدعونا نحب لنكن مع الله … دعونا نفهم حقيقة قواعد الإسلام كما هى من عند الله، وليس كبعض تطبيقاته حاليا على الأرض.
* محامى وكاتب مصرى
bakriway@gmail.com