الوطنية الساذجة!

الوطنية الساذجة!
حازم شريف

حازم شريف

11:00 ص, الأحد, 7 سبتمبر 03

جلست إلي البار اتجاذب معه أطراف الحديث غير منتبه إلي أذنين دخيلتين، تنتفخان ويميل لونهما إلي الاحمرار تدريجيا وهما تسترقان السمع في غضب!
 
كان رفيقي سائحا أجنبيا التقيته لتوي، فتعارفنا.
 
سألته: من أين انت؟
 
أجاب: من رومانيا.. وانت؟
 
أجبته: مصري.
 
وكما هي عادة زبائن البارات تدفق الحوار في سلاسة، كل منا يحكي للآخر عن بلده ومجتمعه وعادات وقيم وثقافة هذا المجتمع.
 
بدأ هو بالحديث عن رومانيا وكيف مرت كغيرها من دول الكتلة الشرقية بمرحلة تحول – ولا تزال- وكيف تحول هو بدوره من مهندس معماري – في رومانيا «شاوسيسكو»- إلي عازف جيتار متجول في شوارع العاصمة بوخارست – في رومانيا المتحولة- كي يستطيع أن يجمع قوت يومه، عقب أن فقد وظيفته.
 
تحدث وتحدث.. وتحدث عن بلده وأحوالها بصراحة، ثم جاء عليه الدور في السؤال، ومن ثم كان لابد وأن أجيب بمنتهي الصراحة.
 
– لماذا يطلب مني سائق التاكسي في بلدك 20 جنيها في توصيلة يقبل أن يتقاضي عنها ثلاثة جنيهات من مواطنيه؟
 
– أجبته: أعتقد أن هذا جزء من ثقافتنا السائدة التي تستبيح السائح الأجنبي.. ماله وعرضه وربما طوله أيضا!. خذ عندك عبارة «الأسعار سياحية»، التي كثيرا ما تراها، كيافطة تزين جدران المطاعم والمقاهي، لها ترجمتها الخاصة في ذهنية الطبقة المتوسطة وهي: أن الأسعار مرتفعة جدا أو مغالي فيها، أما ما تعنيه العبارة في الذهنية الشعبية ببساطة: أن أصحاب هذا المكان «حرامية».
 
وهكذا يترادف لفظ «سياحة»- ويبرر في نفس الوقت- عملية استحلال السرقة أؤ المبالغة في السعر أو الفعل في أفضل الأحوال.
 
وللفعل حكاية وحكاوي أخري.
 
ومضيت أحكي: ما زلت اذكر واقعة طريفة كنت شاهدا عليها قبل سنوات، حين صعدت فتاة شقراء إلي إحدي سيارات نقل الركاب بالأجرة«السرفيس»، ثم تعرضت للتحرش من جانب الراكب الملاصق لها، فما كان منها إلا أن نهرته، قبل أن تلتفت لباقي الركاب، تطلب منهم الدعم والمساندة. رد الفعل الأول- والأخير- جاءها من أحد الركاب: معلهش يا بنتي أصله كان فاكرك أجنبية!
 
عبارة مواساة.. خرجت كالرصاصة التي أسكتت – أو بمعني أصح- أخرست الجميع. هدأت خواطرهم، استكانوا واستقرت نفوسهم وارتاحت ضمائرهم، بعد أن اطمأنوا أن المقصود والمستباح والمستحل هو الأجنبية «المنحلة» – بحكم التعريف السائد- وليس تلك الفتاة الشقراء الجميلة «المحلية»!
 
وتوالت أسئلة الشاب الروماني عازف الجيتار التواق إلي المعرفة بعد أن تذوق طعم الحرية.. أسئلة عن كل شيء، من أنواع الأطعمة المفضلة لدي المصريين إلي الدين وطبيعة الحياة السياسية وحرية إصدار ونشر الصحف والمجلات وحرية الاعتقاد وإبداء الرأي والتعبير والديمقراطية.
 
بادلته صراحته بصراحة، وكأننا نمارس حالة من الاعتراف المقدس، نكفر بها عن خطيئة الصمت الذي فرضته علينا قوي خارقة غير منظورة، أو منظورة ولكننا نبرر سكوتنا عليها – في أوقات وظروف ومجتمعات مختلفة- بحجة أنها قوي أسطورية.
 
انتهي الحديث.. بعد أن استراح كل منا، هم الصديق الجديد – الذي لن آراه مرة أخري- بالانصراف، تصافحنا، تعانقنا عناق الوداع الأخير، مضي، التفت لأحتضن حافة البار من جديد.. لاستفيق علي صرخة مدوية!!
 
كيف تتحاور مع هذا الأجنبي الغريب عن مصر والمصريين بهذه الوقاحة أهكذا ننشر «غسيلنا الوسخ» أمام الأغراب؟ ألست مصريا؟! كان صوت عامل البار مفعما بالغضب، وعيناه تقطر شرا ورعدا، وأنفه وأذناه منتفختان مكتسيتان بحمرة قرمزية، بدت واضحة قارصة كالشمس رغم الأضواء الخافتة.
 
والغريب أنه لم ينس أن يغالط – في وقاحة وإصرار عجيبين- الشاب الروماني في عدد ما احتساه من مشروبات قبل أن يغادر الأخير المكان!