يأمل المغرب في حصد ثمار عدة مبادرات أطلقتها المملكة خلال الأشهر الماضية لتلافي أثر الأزمات من ارتفاع أسعار المواد الأولية نتيجة تعثر سلاسل الإمداد عقب الغزو الروسي لأوكرانيا، وهو ما أثر على العجز التجاري للبلاد ودفع التضخم لأعلى المستويات وصولاً إلى تأثيرات موسم الجفاف.
وبينما يمثل ارتفاع الأسعار أبرز التحديات التي تواجه اقتصاد المملكة خلال العام الجاري، تظهر الصادرات كداعم أكبر للاقتصاد في 2023 بعدما كانت مسانداً له العام الماضي.
استمرار الضغوط التضخمية
مازالت الضغوط التضخمية تُلقي بظلالها على الاقتصاد، بعدما دفعت البنك المركزي لرفع سعر الفائدة مرتين في العام الماضي بـ100 نقطة أساس إلى 2.5%، إذ يُتوقّع أن يصل التضخم إلى 6.6% مقابل 1.4% في 2021، على أن يناهز 3.9% في 2023، وهو ما قد يستلزم تشديداً آخرَ للسياسة النقدية في أولى جلسات السياسة النقدية لبنك المغرب المركزي في مارس المقبل.
قال والي بنك المغرب عبد اللطيف الجواهري، في مؤتمر صحافي في 20 ديسمبر، إن تأثير رفع الفائدة سيظهر في بداية العام 2023، إذ سيتم تقييم تأثير الرفع الأول الذي تم في سبتمبر على مستوى فوائد القروض الممنوحة من البنوك لصالح الأفراد والشركات، وسيمتد التأثير إلى النمو الاقتصادي.
بالإضافة إلى كبح جماح التضخم، يُراهن المغرب على موسم زراعي جيد لرفع الإنتاج الوطني من الحبوب، إلا أن هذا يبقى رهناً بكمية الأمطار التي تستقبلها البلاد في 2023 التي يعتمد عليها القطاع الزراعي الذي يُسهم بـ14% في الناتج المحلي الإجمالي.
الأوضاع الاقتصادية الدولية لا زالت صعبة ومعقدة ولها تأثيرات مستمرة، بحسب محمد شوكي، رئيس لجنة المالية والتنمية الاقتصادية بمجلس النواب المغربي الذي أضاف أنَّ “الحكومة تبذل جهوداً لخلق الفرص من الأزمات”.
زيادة الاستثمارات لتحفيز النمو في 2023
يُتوقع أن يبلغ إنفاق الحكومة على الاستثمار العمومي في العالم الحالي حوالي 28 مليار دولار. وتستهدف المملكة تحقيق نمو اقتصادي بمعدل 4% مقابل 1.5% في 2022، وخفض عجز الميزانية إلى 4.5% من الناتج المحلي الإجمالي، مقابل 5.3% المتوقَّع مع نهاية 2022.
وكالة “موديز” قالت في تقرير أصدرته يوليو الماضي إن المغرب أظهر كفاءة في تدبير الأزمات وتحسين الحوكمة بما يسمح بتحسن تدريجي لوضعية الميزانية والمديونية، وتتوقع أن يسجل اقتصاد البلاد نمواً بما يتراوح بين 3 إلى 3.5% حتى 2025، وبخصوص عجز الميزانية تشير إلى 6.2% و5.8% و5.3% لسنوات 2022 و2023 و2024.
وتشير وكالة “فيتش” في تقرير أصدرته في نوفمبر أن البلاد تواجه نمواً متباطئاً بـ1,1% نتيجة موسم الجفاف الأكثر قسوة منذ عقود والتضخم الذي يؤثر على الاستهلاك ووتيرة التمويل، ناهيك عن الظرفية الدولية المتقلبة، بينما تتوقع نمواً اقتصادياً بـ2.8% عام 2023 ليرتفع إلى 3.2% في 2024.
حصد ثمار عدة مبادرات
في شهر أكتوبر الماضي، أطلق الملك المغربي محمد السادس مبادرةً تهدف لضخ استثمارات بـ50 مليار دولار على مدى 5 سنوات، بالتعاون بين الحكومة والقطاعين الخاص والمصرفي، لخلق 500 ألف فرصة عمل جديدة.
مُحسن جزولي، وزير الاستثمار، قال ، إنَّ أهداف هذه المبادرة قابلة للتحقق، وأضاف “نستطيع تسجيل حوالي 100 مليار درهم بنهاية العام الحالي، وهناك إمكانية كبيرة لتجاوز المستهدف (البالغ 50 مليار دولار) بحلول 2026”.
الرهان معقود على تحفيز الاستثمار الخاص لرفع حصته إلى الثلثين مقابل الثلث حالياً والمساهمة بشكل أكبر في تحريك عجلة الاقتصاد، وذلك من خلال ميثاق الاستثمار الجديد الذي يتيح حوافز مالية وضريبية لشركات القطاع الخاص للاستثمار، وهو ما من شأنه أن يعيد الثقة للمستثمرين في مواجهة سياق عدم اليقين، وفق تصريح محمد شوكي.
الاستثمار الأجنبي في القطاع الصناعي
بحسب المعطيات التي قدمها وزير الصناعة والتجارة رياض مزور، فإن الاستثمار الأجنبي والمحلي في القطاع الصناعي سيتجاوز 10 مليارات دولار العام الماضي، على أن يشهد نمواً قوياً خلال 2023 ليساهم في خلق 100 ألف فرصة شغل صافية.
إلى جانب مبادرة الـ “50 مليار دولار”، فعّلت الحكومة صندوق محمد السادس للاستثمار الاستراتيجي الذي تلقى مساهمة أولية بـ1.4 مليار دولار، ويرتقب أن يجلب تمويلات محلية ودولية من الخليج وأوروبا لبلوغ 14 مليار دولار في السنوات المقبلة، بحسب وزير الاستثمار.
الصندوق عقد أول اجتماع لمجلس إدارته برئاسة مديره محمد بنشعبون، وزير المالية الأسبق، بنهاية العام الماضي، ومن المنتظر أن يمول المشاريع الاستثمارية الكبرى في إطار شراكات مع القطاع الخاص، كما سيدخل في رأسمال الشركات الصغرى والمتوسطة، ويمنح القروض للشركات النشيطة في القطاعات ذات المردودية العالية، وفقاً لبيانات إنشائه.
ولتحريك عجلة سوق المال، بدأت “الوكالة الحكومية للتدبير الاستراتيجي لمساهمات الدولة” عملها رسمياً بالشروع في دراسة إمكانيات خصخصة 57 شركة حكومية، إما عن طريق الإدراج في البورصة أو البيع لشركات خاصة أو دولية.
يتماشى تفعيل هذه الوكالة مع طموحات بورصة الدار البيضاء برفع عدد الشركات المدرجة بنحو 5 أضعاف، إلى 350 شركة بحلول عام 2035، من 75 حالياً، بحسب تصريحات كمال مقداد، رئيس مجلس إدارة البورصة، أي بمعدل طرح 20 شركة سنوياً للاكتتاب على مدى الأعوام الـ13 المقبلة.
أداء قياسي للصادرات
إلى جانب إنجاز منتخب المغرب في كرة القدم خلال بطولة كأس العام، كانت 2022 حافلة بإنجازات اقتصادية مهمة تمثل أبرزها في تحقيق المملكة لأرقام قياسية من حيث صادرات الفوسفات ومشتقاته بأكثر من 9.5 مليار دولار، وصناعة السيارات بـ8.5 مليار دولار في الأشهر العشر الأولى، بينما يُرتَقب أن تنهي السنة بـ23.4 مليار دولار مُجتمعةً.
قال رياض مزور، وزير الصناعة والتجارة، في حديث مع “الشرق”، إن الصادرات الصناعية للمغرب ستفوق 35 مليار دولار في 2022، على أن تتجاوز في 2023 ما قيمته 40 مليار دولار، أي بنحو 14% كزيادة على أساس سنوي.
وإلى جانب الصادرات، يُنتظر أن تحقق إيرادات السياحة رقماً قياسياً العام الماضي عند 8.4 مليار دولار، ومثلها في 2023، فيما ستبلغ تحويلات المغتربين 10 مليارات دولار في 2022، وحوالي 9.6 مليار دولار في 2023، وهي إيرادات تدعم رصيد البلاد من العملة الصعبة على نحو يغطي وارداتها لأكثر من نصف سنة.
سجل المغرب هذا الأداء الجيد في وقت قفز فيه معدل التضخم إلى 8.3% في نوفمبر وهو مستوى لم تشهده البلاد منذ ثلاثة عقود، ناهيك عن تداعيات موسم جفاف غير مسبوق.
استثمار أخضر في الفوسفات
اختار المغرب تحديد حصة مهمة من الاستثمار العمومي لقطاعات المستقبل، إذ خصص 12.3 مليار دولار لتطوير القطاعات المرتبطة بإنتاج وتطوير صناعات الفوسفات على مدى 5 سنوات، وذلك ضمن البرنامج الاستثماري الأخضر الجديد لـ”المجمع الشريف للفوسفاط” (OCP) التابع للدولة، للأعوام بين 2023 و2027.
نوه محمد شوكي، رئيس لجنة المالية والتنمية الاقتصادية بمجلس النواب، في حديث لـ”الشرق”، بأن المغرب يسعى من خلال هذا الاستثمار الأخضر لانتهاز الفرص المتاحة في الطاقات المتجددة والهيدروجين الأخضر وذلك من خلال مبادرة تقوم بها شركة عمومية لتشجيع القطاع الخاص على الانخراط في هذا المجال.
البرنامج الاستثماري الجديد لشركة “المجمع الشريف للفوسفاط” يهدف إلى زيادة الإنتاج بالاعتماد على الطاقة الخضراء، وتحقيق الحياد الكربوني قبل عام 2040، على أن تصل نسبة المكون المحلي إلى 70%، فضلاً عن توفير 25 ألف فرصة عمل.
هذه الاستثمارات ستتيح على المدى البعيد وضع حد لاعتماد الشركة الحكومية على الواردات، مثل الأمونياك الذي تسعى إلى إنتاجه من خلال الهيدروجين الأخضر.
تخطط الحكومة لإنتاج نحو 3 ملايين طن من الهيدروجين الأخضر بحلول عام 2030، وفق سيناريو متفائل، بالاعتماد على إمكانات البلاد في مجال الطاقة المتجددة وتحلية مياه البحر، ما من شأنه تسريع تحقيق هدف الحياد الكربوني في 2050.
تراجع الإقبال على الاستثمار
كان للتضخم والركود العالمي أثر سلبي على إقبال الشركات على الاستثمار، إذ أشارت المندوبية السامية للتخطيط، الهيئة الحكومية المكلفة بالإحصاء، إلى أن الشركات المغربية ستكون أكثر حكمة بتفضيلها تحسين هيكلها المالي على الاقتراض بهدف التوسع.
عبد الله فركي، رئيس الكونفدرالية المغربية للشركات الصغيرة والمتوسطة، قال “عاش القطاع الخاص سنة صعبة بسبب تداعيات الأزمة الصحية المستمرة لسنتين، ليزيد التضخم وارتفاع أسعار المواد الأولية والطاقة من تفاقم الوضع على نحو كبير جداً تجلى في نسبة كبيرة من حالات الإفلاس”.
بحسب تقرير أصدرته مؤخراً شركة التأمين والاستثمار الدولية “أليانز”، فإن حوالي 12.2 شركة مغربية ستواجه الإفلاس خلال العام الجاري، مقابل 11.8 شركة العام الماضي، و10.55 شركة العام قبل الماضي، و8477 عام 2019. معدلات الإفلاس المتوقعة خلال العام الجاري تمثل زيادة بنحو 44% عن عام ما قبل جائحة كورونا.
تقرير “أليانز” نوّه بأن الضغوط التضخمية، وتشديد السياسات النقدية من قِبل البنوك المركزية، واضطرابات سلاسل التوريد، ستؤدي لتأثير سلبي على التدفق النقدي للشركات، مُقدّرةً أن إفلاس الشركات على المستوى العالمي سيرتفع خلال العام الحالي بـ10%، وسيقفز 19% 2023.
اعتبار 2022 سنة صعبة رأي يتشاركه أيضاً محمد شوكي، رئيس لجنة المالية والتنمية الاقتصادية بمجلس النواب المغربي، إذ قال إن “العام الجاري تميز بسياق صعب تجلى في التضخم المستورد إضافة إلى تداعيات موسم الجفاف بانخفاض مساهمته في النمو الاقتصادي”.