تغيرات النظام الحالى حققت تقاربًا بين الدول النامية والقوى الكبرى اقتصادياً
صعود جامح للصين وجيرانها مقابل تراجع نسبى فى دول الغرب
التحول الرقمى والتصدير وتوطين النمو.. عناصر تحقق نقلة نوعية للاقتصاد المصري
حلً الدكتور محمود محيى الدين، المدير التنفيذى بصندوق النقد الدولي ، ضيفًا بالحلقة الثالثة من برنامج «سى آى أو ليفل»، الذى يُذاع على قناة «المال تى في»، بموقع يوتيوب، حيث حاوره حازم شريف، رئيس تحرير جريدة «المال» افتراضيًا عبر تطبيق «زووم»، فى حديث شيق تناول إمكانية ولادة الأزمة الحالية لنظام عالمى جديد، والقوى الاقتصادية المسيطرة عالميًا، قبل الأزمة، وبعدها، وأهمية التكامل بين الأنشطة الاقتصادية، وحاجة المؤسسات العالمية للتطوير لتتلاءم مع المتغيرات الجديدة، وتأثير كل ما يجرى على العالم العربي، وموقع مصر والمنطقة العربية من كل ذلك، والمحركات التى ستدفع اقتصادها، والسياسة النقدية العالمية، وغيرها من القضايا الهامة.
«كورونا» أعاد منحنى الفقر للصعود
– حازم شريف: بالعودة إلى الحديث حول نظام عالمى جديد وليد الأزمة الحالية، وأنه عادة فى هذه الأوقات ما تظهر آراء متناقضة بين أقصى اليمين، وأقصى اليسار، إحداها تؤكد قدرة الرأسمالية، والنظام على الاستمرار والاستفادة من الأزمات، وآخرها أزمة كورونا، ومن قبلها الأزمات المالية العالمية، فى الفترة الماضية، وفى المقابل آراء تصل إلى أن توالى الأزمات يضع المسمار الأخير فى نعش النظام الرأسمالى الحالي، فهل نحن حاليًا فى لحظة خلق أم ستستمر الأمور كما هى الفترة المقبلة؟
محيي الدين المدير التنفيذى بصندوق النقد الدولي : الحديث حول أننا فى مرحلة تحول وانتقال كان سابقًا لأزمة كورونا التى حدثت فى 2020، وتداعياتها، والأزمات تكون كاشفة ومُعجلة، لعوار النظم، ومزاياه وقدرته على التصدي، ومعجلة من زاوية أن هناك أحداثًا كانت ستستغرق سنوات حدثت فى أشهر، كما رأينا فى وسائل التواصل التى نتحدث من خلالها، فضلًا عن أن الأزمات توجد أشياء لا نعلمها.
ولكن لنركز فيما نعلمه، أن الأزمة كشفت بالفعل عن حجم الاختلال والتفاوت بين أصحاب الدخول المنخفضة، والمرتفعة، وعدم العدالة فى توزيع الدخول والثروة التى تزايدت منذ ثمانينيات القرن الماضي، وبلغت زيادتها القصوى قبل الأزمة الأخيرة، واستفحلت خلالها.
ولكن قبل الأزمة دعنا قبل الحديث عن تغيرات النظام القائم حتى الآن، نعترف أنه قد أنتج أشياء جيدة أيضًا، ولا ننسى أنه حقق تقاربًا كبيرًا بين الدول النامية والمتقدمة اقتصاديًا، خاصة مع صعود الصين وجيرانها، وانتقال مركز الثقل للجاذبية الاقتصادية من الغرب إلى الشرق تدريجيًا، والآن يميل أكثر ناحية الشرق.
والشيء الآخر، لا ننسى أن هذا النظام كان قائمًا على العولمة، وحرية التجارة، وحرية رأس المال، وإلى حد أقل حركة العمالة، ولكن الأهم سرعة حركة الأفكار، واستطاع تقليل عدد من يعانون الفقر المدقع عالميًا بواقع مليار إنسان، وهو رقم غير هين، وحدث بشكل تدريجى، حتى اصطدمنا بالأزمة، لتعود نسبة مَن هم تحت خط الفقر المدقع للارتفاع مرة أخرى، لأول مرة منذ 1998، ولكن كان فى السابق هناك تحسن كبير فى انخفاض نسبة الفقر حول مستوى العالم.
الأمر الآخر انعكس أيضًا على حياة الناس، وحتى توقعات متوسطات الأعمار عالميًا منذ الولادة ارتفعت، من بين 63 إلى 64 عامًا إلى أكثر من 70 سنة، فكانت هذه العوامل جميعها من مزايا هذا النظام المعمول به حتى الآن.
وعندما يأتى نظام جديد يجب أن يأتى بما هو أفضل، ويبنى على ما جاء به النظام السابق، ويطوره ويحسن منه، هذا من الناحية النظرية، ولكن ما يحدث فى الواقع شيء آخر؛ لأن هناك صعودًا جامحًا لدول الشرق، خاصة الصين وجيرانها، وهناك تراجع نسبى فى دول الغرب اقتصاديًا، وهو ما يتسبب فى نوع من التوتر والمشكلات، خاصة بالنسبة لمؤسسات النظام العالمى القائم التى ظهرت -باستثناءات محدودة- بعد الحرب العالمية الثانية.
جميع المؤسسات (الأمم المتحدة، البنك الدولي، صندوق النقد الدولي)، ومنظمات أخرى كمنظمة التجارة العالمية، التى كانت وليدة ما بعد الحرب العالمية الثانية، يجب أن تتطور وتتحسن لتتلاءم مع الوضع الاقتصادى الجديدة بقواعد لعبة جديدة، وتمثيل مختلف للقوى عما كان عليه الوضع سابقًا.
وأتوقع أن المُشكل للنظام الاقتصادى الفترة المقبلة سيكون -فى تقديري- 3 عوامل:
الأول؛ على الأجل القصير، وهو القدرة على التعامل مع هذه الأزمة الراهنة بأبعادها الصحية، والاقتصادية، والانكماش الشديد فى الاقتصاد العالمي، وأيضًا كل ما يرتبط باحتمال تفاقم مشاكل المديونية لعدد كبير من الدول النامية، وأيضًا دول متقدمة فى حالة الأخذ فى الاعتبار أزمات لا تقتصر فقط على الديون الخاصة بالدول، ولكن أيضًا ديون الشركات، وديون القطاع العائلي.
الثاني؛ مرتبط بالتكنولوجيا ومدى تسارعها، وقدرة الاقتصادات المختلفة على تنظيمها بشكل لا يتغول على حقوق وخصوصيات الأفراد، وأيضًا على اقتصاداتها، خاصة مع وجود 4 أو 5 شركات مسيطرة على الوضع.
الثالث؛ التنمية المستدامة وتغير المناخ، مع تحذيرات أن الحديث حول خطورة تغير المناخ وهو واقع، أصبح أكثر سيطرة من الأبعاد الأخرى للتنمية المستدامة.
3 عوامل تُشكل النظام الاقتصادى العالمى خلال 5 سنوات
وهناك قائمة طويلة يمكن رصدها حول مسببات تغيرات الأوضاع الاقتصادية العالمية، تضم أبعادًا خاصة بالسكان، وقضايا المياه، والطاقة، ولكنى أتصور أنه فى الأجل القصير خلال فترة 3 و5 سنوات مقبلة، هناك محددات أساسية ثلاث هى المسيطرة: طريقة التعامل مع أزمة كورونا، وطريقة التعامل مع أبعاد العولمة المختلفة (حركة العمالة، حركة رأس المال، المعلومات وحركة البشر)، والملف الساخن المرتبط بتغيرات المناخ، ونرى أنه المسيطر الأول على الحوار بين الدبلوماسية الصينية والدبلوماسية الأمريكية.
– حازم شريف: ما ذكرته حول أن بعض إنجازات النظام الحالى تتمثل فى انخفاض نسبة الفقر المدقع، وعدد الفقراء بواقع مليار نسمة قبل أزمة كورونا. كم شخص من هذا العدد فى الصين؟ وذلك لكى نستوضح هل هذا الرقم خادع أم لا، فلا يخفى عليك أن الصين قبل ظهور كورونا أحرزت إنجازات كبرى تتعلق بمكافحة الفقر، ومع التعداد السكانى الكبير فى الصين أستطيع أن أستنتج، وأن توضح لى بصورة أكثر دقة، هل هذا يرجع بالفعل لما تم بالصين من قضاء على الفقر؟
وسيقودنا هذا إلى النقطة التالية المرتبطة بتعدد الأقطاب بصورة مختلفة عن نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية، وإذا كانت الصين استطاعت المساهمة فى إنجاز بهذا الشكل، -وأنت موجود فى المؤسسات الدولية-، فما المطالبات التى تحدث من جانب الصين والقوى الآسيوية فيما يتعلق بانعكاس القوى على الأرض فى التمثيل والتأثير بهذه المؤسسات؟
محيي الدين، المدير التنفيذى بصندوق النقد الدولي : هناك إسهام كبير من الصين فى مكافحة الفقر، وخفض نسب الفقر المدقع على مستوى العالم، ورغم ما كنا فيه أعلنت الصين القضاء على الفقر المدقع، والوصول لرقم صفر قبل الموعد المتوقع فى 2030، وهو إنجاز كبير، ولكنه لم يحدث فقط فى الصين، حدث أيضًا فى الهند، وإندونيسيا، ودول كثيرة فى شرق العالم، وحتى فى إفريقيا نسبة الفقر، والفقر المدقع انخفضت.
معدلات الفقر تراجعت بكل الأقاليم باستثناء الشرق الأوسط وشمال إفريقيا
وفى المقابل كانت المنطقة الوحيدة التى حدث فيها ارتفاع فى معدلات الفقر المدقع هى الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، بنسبة 2.5%، لما يقترب من 5% خلال الفترة من 2015 إلى 2018، لكن على مستوى العالم النسبة انخفضت فى كل المناطق الاقتصادية، حتى إفريقيا انخفضت فيها نسبة الفقر والفقر المُدقع، بينما الرقم المُطلق زاد نتيجة الزيادة السكانية.
وما حدث بعد 2020 هو سيناريو آخر، عالميًا باستثناءات محدودة من بينها الصين، حيث إن الرقم الخاص بالفقر زاد لأول مرة منذ 1998، ونتمنى أن يعود هذا الرقم لمساره عام 2020 بالجهود الخاصة بالتعافى والاستثمارات الخاصة بالضمان الاجتماعي.
وفيما يتعلق بموضوع التغيرات فى القوى الاقتصادية، ومدى تأثيرها على النظام الاقتصادى العالمي، فقد كانت هناك مطالبة، ليست بالجديدة منذ ما قبل 2008، بأن تقسيم العالم للعوالم الثلاثة القديمة، أصبح غير ذى محل، حيث إنه بعد الحرب العالمية كان التقسيم العالمى هو عالم أول، وعالم ثانٍ يضم الاتحاد السوفيتى ودول أوروبا الشرقية، والعالم الثالث يضم بقية دول العالم.
العالم الأول أصبح هناك نوع من أنواع المراجعة لقدراته، والثانى اختفى بسقوط حائط برلين وتفكك الاتحاد السوفيتي، ودخل عدد كبير من هذه الدول الآن ضمن الدول المتقدمة، وأصبح منها أعضاء فى منطمة التعاون الاقتصادى والتنمية، والاتحاد الأوروبي، وهى دول أوروبا الشرقية، وعدد آخر انتمى للدول النامية والأسواق الناشئة.
وبعد الأزمة الحالية، هناك علامات استفهام شديدة حول من هى القوى الفعلية، وبالتالى لا يصح اليوم الحديث عن الدول الصناعية الكبرى، وإغفال دور الـ10 أقطار التكنولوجية الكبرى، ولا يمكن الحديث عن أهم الدول المؤثرة فى الاقتصاد العالمي، ولا نتحدث عن الصين والهند وكوريا، وبلاد أخرى من تلك التى حققت نشاطًا اقتصاديًا قويًا.
وبناءً على ذلك، فإن المنهج الاقتصادى العالمى اختلف كليًا، إلا أن هناك بعض القواعد القديمة التى ما زال البعض يعمل بها، مع توقعات أنها ستتغير مع الوقت، ليس بشكل ثوري، ولكن بالتطور، وحتى تحتوى هذه المؤسسات الدولية التغيرات الاقتصادية العالمية.
وفى حالة عدم حدوث هذه التغيرات سيحدث كما حدث لعصبة الأمم من قبل، التى أصبحت كيانًا موجودًا، لكنه لا يضع فى اعتباره التوازنات الاقتصادية وفقًا للقوى الموجودة على الأرض.
– حازم شريف: ماذا لو لم تستطع المؤسسات المالية الكبرى استيعاب التغيرات التى حدثت فى موازين القوى الاقتصادية، خاصة فى الشرق (الصين – الهند)، وربما دول أخرى يمكن وضعها فى الاعتبار مع هذه الدول الصاعدة؟
محيي الدين، المدير التنفيذى بصندوق النقد الدولي : أول شيء ينبغى أن يأتى بالاعتراف بالنظام العالمى الجديد، واعتباراته الاقتصادية، والسياسية، وأن النظام اليوم متعدد الأقطاب، ربما يكون هناك قطبان أشد قوة وتأثيرًا فى الغرب الولايات المتحدة، والشرق فى الصين، ولكن هناك أقطابًا أخرى، منها قائمة، ومنها ما زال بقوته وعنفوانه، وأقطاب تحاول الصعود، وأخرى تحاول التشبث والتمسك بقواعد القوى.
ولا نستطيع اليوم إغفال أهمية دول كالهند، وإندونيسيا، وعدد من دول أمريكا اللاتينية فى صعودها، ودور الاتحاد الأوروبي، خاصة بعدما حدث له نوع من التجديد الداخلى خلال السنوات الثلاث الأخيرة، وأتصور أن الاتحاد الأوروبى استفاد من الأزمة بإعادة إحياء أسسه وقواعده بعدما بدأت بعض الأقلام فى كتابة نعيه.
ولكن حاليًا أتصور إنه خلال العام الماضي، وبقدر كبير جدًا من الجهود بنظام التعاون والتكامل بين دول الاتحاد، واتخاذ مواقف موحدة تجاه العالم الخارجي، وإنشاء صندوق ضخم للتعافي، أصبح الاتحاد الأوروبى أكثر تنسيقًا وتكاملًا، وعاد الحديث حول أن الأمل القديم والفيدرالية المالية، من الممكن تحققها باستمرار جهود التعاون.
وليس هناك مشكلة إطلاقًا فى وجود عدة أقطاب، ولكن السؤال المهم، ما موقع مصر بين هذه الأقطاب جميعًا فى المنطقة العربية وإفريقيا؟ مع الإشارة إلى أهمية وجود تعاون بين هذه الأقطاب الكبرى.
وفى حالة عدم تحقيق سيناريو التعاون سيكون هناك احتمال حدوث نوع من أنواع الانشطار إلى قطبين، كل منهما له ما يدور حوله، وفى فلكه، ويضع نظمًا للتعامل فى كل الجوانب والأصعدة، فى أنظمة البيع والشراء، والأنطمة الاقتصادية، وهو ما يعد تنافسًا جيدًا، ولكن هذه النظم إذا لم تحقق التكامل فيما بينها ستصبح هناك مشاكل كبيرة فى حركة التجارة والاستثمار والتعاون الدولي، وهو ما سيكون له تداعيات سياسية تظهر فى التوترات، وفرض سياسات حمائية، وهذا هو المسار الطبيعي… إما التعاون وإما التحول إلى غريم وخصم.
ويرجعنا هذا الحديث إلى طبيعة العلاقة فى السياسة الدولية، وأتصور البراجماتية المبدئية ستكون هى قواعد اللعبة، وأن الموضوع لا يرتبط بتطبيق النظام الرأسمالى أو الاشتراكي، وإنما أصبحت هناك مرونة فى التعريفات، وأصبح المسيطر السير وراء الهدف، والبراجماتية هى القاعدة.
الفكرة السائدة حاليًا هى البرامجاتية، وهى مرتبطة بأهداف تحقق المصلحة العامة للدولة وتشمل تنمية مستمرة، وفرصًا قوية لمواطنى الدول، وعدم التمسك بالقوالب الاقتصادية القديمة التى بدأت مع آدم سميث بالقرن الثامن عشر، ومع كارل ماركس بالقرن التاسع عشر، والتى كانت تمهد للثورة الصناعية الأولى والثانية، والتى تجاوزناها.
– حازم شريف: نحن تجاوزناها بالفعل، ولكن فى العالم المعاصر الذى نعيشه، الكتابات المختلفة تصنف الاقتصاديين فى مدارس ترجع لهذه العصور القديمة، وحتى بالعصور التى تليها؟
محيي الدين، المدير التنفيذى بصندوق النقد الدولي : أجريت مؤخرًا مع إحدى الزميلات، دراسة حول مدى التأثر بالمذاهب الاقتصادية المختلفة، فى الكتابات الاقتصادية والأكاديمية فى المنطقة العربية، ووجدنا أن جميع المدارس الاقتصادية القديمة والمعاصرة، تداخلت تداخلًا كبيرًا.
كما ظهر مؤخرًا كتاب حول تأثير الدين على صياغة علم الاقتصاد، ونجد هنا أن علم الاقتصاد فى تغيراته وتطوره ليس لنا أى علاقة به فى منطقتنا، لأنه تأسس بناءً على نوع من أنواع الصراع والتفاهم والتوافق والتعارض مع بدايات ونهايات حركة التنوير فى أوروبا، وموقف آدم سميث وغيره من التنوير، وإلى أى مدى يساند هذه الأفكار، وإلى أى مدى تتوافق أفكاره مع أخرى كأفكار نيوتن نحو الطبيعة وقواعدها.
وبعض الدول قررت استخراج المبادئ العملية التى تحقق التقدم من المبادئ الاقتصادية، والعمل بها، وبالتالى أصبحت قضية التقدم وتحقيقه بثبات واستقرار هى الأمر المهم فى التمرد على المدارس الاقتصادية القديمة، واستخراج أفكار جديدة تدمج هذه المدارس معًا، وتحقق التنمية، حيث إن الجمود فى تطبيق المفاهيم الاقتصادية قد يؤدى إلى أزمات.
– حازم شريف: نفهم من ذلك أنك تدعو البراجماتية فى الاقتصاد؟
محيي الدين، المدير التنفيذى بصندوق النقد الدولي : تمامًا، البراجماتية والمرونة الشديدة، لأن الفئات المستهدفة بنصيحتك كخبير اقتصادى فى حالة مواجهتها مشكلة فقر أو تعليم أو صحة أو كساد أو تخلف فى البنية الأساسية ليست لهم أى علاقة بأى أيديولوجية تنتمى إليها، ولا يجوز حينها التحدث عن انتماءاتك الفكرية وتتعطل عندها، بينما يريد هو حلولًا تتطلب منك فهم ثقافة الدولة، وطبيعتها، حيث إن بعض المناطق القريبة للغاية جغرافيًا، قد تتطلب حلولًا مختلفة كليًا حال مواجهتها نفس المشكلة، مع إدخال الإطار الاقتصادى فى المضمونات الموجودة من اعتبارات سياسية، وثقافية، واستعدادات الناس للتغير.
– حازم شريف: قبل ختام الجزء الثانى من الحلقة، هناك سؤالان، الأول؛ له علاقة بصفتك فى قلب الأحداث العالمية، وما السيناريو المُرجح حدوثه: هل هو التعاون بين الأقطاب، أم الانفصال؟ والثاني: تأثير ما يحدث على المنطقة العربية، وكيفية التعامل معه؟
محيي الدين، المدير التنفيذى بصندوق النقد الدولي : رد العقل يقول إن التعاون أفضل من التناحر، وأن التجارب السابقة التى لم تدرك بالكامل أهمية استيعاب دور الدول الصاعدة، يترتب عليها مشاكل.
واحدة من تفسيرات ما آلت إليه الأوضاع، وتسببت فى الحرب العالمية الثانية، ليس فقط أن القواعد الخاصة بالسلم مع ألمانيا كانت مُجحفة للأخيرة، أيضًا لم يكن هناك استيعاب من جانب ما عُرف بالقوى الأوروبية لهذا الصعود الجامح للولايات المتحدة.
نحن فى الأوضاع الحالية نرى سيناريو مقاربًا جدًا، حيث إن هناك صعودًا لا يمكن إنكاره فى حالة الصين وجيرانها -كل هذا الجانب الشرقى الذى يمر بحالة نمو منذ منتصف السبعينيات إلى يومنا هذا- وتشكل اقتصادات أهم، وتساهم بقوة فى حركة التجارة.
فالصين لأول مرة كانت أكثر استقبالًا للاستثمارات الأجنبية من الولايات المتحدة العام الماضي، وقبلها بعدة سنوات كانت الصين رقم 1 فى التجارة الدولية، ولن تمر سنوات طويلة إلا وستكون الصين باقتصادات السوق وأسعارها الاقتصاد الأول على مستوى العالم.
وهذا الانطلاق الاقتصادى للصين وجيرانها تترتب عليه تغيرات سياسية واعتبارات مهمة، ونتمنى أن يكون هناك نظام اقتصادى يتيح تمثيلًا أفضل للصين وعملتها على سبيل المثال.
فى المقابل نحن فى المنطقة العربية، والإفريقية نراقب التحركات الاقتصادية من الغرب إلى الولايات المتحدة، ثم من الشرق، وذلك يستدعى الانتباه نحو التركيز على المحددات الرئيسية لحركة الاقتصاد العربي، و3 منها ستشكل حركة اقتصاد المنطقة العربية الفترة المقبلة.
الأول: يرتبط بالمياه، والثانى بالطاقة، والثالث بالغذاء، وهذا ما يعيدنا لتحديات تسبق الثورة الصناعية الأولى، وهى الاحتياجات الأساسية منذ بدء الخليقة، ولكن جاءت اليوم بأشكال مختلفة حول مستقبل النفط، حيث إن هناك بعض الآراء تقول إنه تم الوصول بالفعل لنقطة القمة فى الطلب على النفط، لتبدأ الأمور فى التراجع منذ 2019، وهناك بعض الآراء الأخرى تقول ما زال هناك سنوات على الوصول فى القمة للطلب على البترول، وهناك كتاب صدر فى هذا الشأن باسم (الخريطة الجديدة) يشير لاستمرارية تأثير الغاز الطبيعى والبترول فى المنطقة.
ولكن فى جميع الأحوال، الهيمنة لمصادر الطاقة التقليدية أصبحت محل منافسة ستعجل بها التكنولوجيا الجديدة فى استخدام الطاقة البديلة والمتجددة والجديدة، وعلى صعيد المياه، نحن جميعنا فى دول شديدة الفقر المائي، وهو ما يحتاج إلى مجهود كبير من الدول التى لديها أنهار، أو تمر بها، أو تصب فيها، واتفاقيات وتنظيم وعمل للمستقبل حول القيام بتقدم اقتصادى واجتماعى فى ظل هذه التحديات، والبعد الثالث، مسألة الغذاء وتأمينه.
ويأتى ذلك فى إطار ثورة صناعية جديدة تسمى الثورة الصناعية الرابعة، ولدينا فرصة قوية للحاق بها، بعد ضياع فرص الثورات الصناعية الثلاث الأولى لأسباب معروفة، فعندما قامت هذه الثورات، لم يكن العالم العربى جزءًا فى هذا النسق العالمى من حيث التطور والابتكار، والإبداع، فى القرون منذ الثامن عشر وحتى العشرين، ولدينا اجتهادات كثيرة فى أغلب الدول العربية، لكننا نحتاج لنموذج براجماتى على طريقة الدول الآسيوية العشر «تجمع الأسيان»، وعدم فرض أجندة، وإنما يتم وضع أجندة للتطور والتقدم، وأخرى للتعاون الاقتصادي؛ بهدف اللحاق بركاب التطور الاقتصادى قبل فوات الفرصة لدخول الثورة الرابعة.
حازم شريف: هل لديك مقترحات محددة للحاق بهذه الثورة؟
محيي الدين، المدير التنفيذى بصندوق النقد الدولي : ستكون المقترحات براجماتية جدًّا؛ أن يتم العمل داخل كل دولة عربية على عدة محاور، وأعتقد أنه فى مصر تم اتخاذ خطوات جيدة فى هذا الأمر، وتتمثل هذه المقترحات فى الاستثمار فى البشر «التعليم، والرعاية الصحية»، وفى البنية الأساسية الكلاسيكية والتكنولوجية، وأيضًا الاستثمار فى القدرة على المقاومة؛ ليس فقط مقاومة لصدمات تغيرات المناخ، ولكن كل الصدمات الأخرى التى يمكن حدوثها، وكما رأينا عند حدوث التوترات الأخيرة لدى جارة من الجارات، كان هناك تدفق من الهجرة، ومن ثم صدمة اقتصادية. ومصر دولة مهمة فى حد ذاتها، وإقليميًّا، وعالميًّا، ودولة قوية بمؤسساتها ونُظمها وسياساتها، ولديها سياسات مرنة لتحقيق الأهداف، والتى سنحاول تلخيصها فيما تم الاتفاق عليه عالميًّا فى موضوع أهداف التنمية المستدامة، وهى ذات بُعد اجتماعي، وتنموي، وسياسي، وبشري، وكل ما يرتبط بتغيرات المناخ، والتصدى لها والحفاظ على البيئة، وتتميز هذه الأهداف بأنها شاملة الأبعاد، والمواطن العادى له النصيب الأكبر فيها، وهو مركز هذه الحركة. وفكرة الدولة القوية اقتصاديًّا ذات السياسات المرنة، من المفترض أن تكون مسيطرة، وفى حالة مصر، هناك 3 محركات ستخلق نقلة نوعية هى التحول الرقمي، والذى يتطلب وجود بنية أساسية تقليدية معتبرة، ويشتمل على عالم قواعد البيانات، وشبكات المعلومات ونُظمها، واستثمارات ضخمة فى الذكاء الصناعي، وهى نقلة نوعية، وليست لها علاقة بالقطاعات، وإنما نمط حياة فى الوقت الحالي، واتجاه حكومي، والثانى يرتبط بالتصدير، والهدف الموجود حاليًّا بالوصول إلى 100 مليار دولار، يعنى مضاعفة الطاقة الحالية 3 مرات، ويعتمد بشكل أقل على الموارد الأخرى للتمويل مثل الاقتراض، والاعتماد على مصدر استثمار خارجى ضخم، ويعد ذلك نموذجًا قويًّا للنمو، الأمر الثالث، توطين التنمية، بمعنى وجود نقاط منتشرة كثيرة بالدولة تمثل محركات عديدة للاقتصاد، وهنا يجب التطرق إلى ضرورة التحرك من القرى والمراكز ليس لتوزيع ثمار النمو، وإنما لكي تصبح هى مصدرًا لثمار النمو، ومن ثم اعتبر أن برنامج تطوير الريف الذى بدأ بـ500 قرية، وينتهى بـ 4500 قرية، هو المشروع القومى الأهم على الإطلاق فى آخِر 10 سنوات.
حازم شريف: هكذا هناك 3 محاور أساسية مطلوب من مصر التحرك خلالها، وبالفعل تم التحرك فى أجزاء كبيرة منها، وخاصة فى الملفين الأول والثالث، بينما التصدير ربما يواجه بعض المشكلات، لكن بالرجوع للمحاور الأساسية للحوار، ولغلق محور النظام العالمى الجديد، ما رأيك فى الهستيريا التى تحدث عند الأزمات؟ على سبيل المثال.. بمناسبة الحديث عن التنمية المستدامة، هناك تيارات الآن فى الغرب، تتوقع أن تؤدى ما يطلَق عليه ممارسات النظام الرأسمالى العالمى، إلى فناء الحياة على الكوكب، وفى المقابل تَظهر آراء لمن يطلَق عليهم أتباع نظرية السكان لمالتوس، تؤكد العكس، وتتوقع أن تؤدى الكوارث والأزمات والمجاعات والأوبئة والحروب إلى الحد من الزيادة السكانية فى العالم، حتى تتعادل مع الموارد المتاحة إلى آخره.. هل تعتبر مثل هذه الآراء مجرد ظواهر عادية، تصاحب الأزمة، أم أنك تتعامل معها بجدية؟
محيي الدين، المدير التنفيذى بصندوق النقد الدولي : فى عملى لا أستطيع إغفال أى وجهة نظر على الإطلاق، خاصة إذا كانت مؤثرة فى الأمور التى نعمل بها على صعيد التنمية، والتعاون الدولي، والتنسيق بين المؤسسات، لكن مسألة التوقعات عن شكل العالم أو نهايته ستكون متى؟ وبأى شكل؟ وغير ذلك، كل هذه النظريات أو التفسيرات لنظريات نهاية العالم، والتى تقول إن الانفجار السكانى سيؤدى إلى فناء العالم، لم تتحقق؛ لأن هناك تسارعًا فى الإنتاجية، بما أطاح بجميع التنبؤات عن نهاية العالم، لكن العالم مشغول حاليًّا بفكرة الاستدامة. ويجب أن نتطرق إلى ما ذكرته من وجود بديل جيد للتعامل مع هذه التحديات؛ هى فكرة الاستدامة، لكن المخاوف منها تتمثل فى أنه، اليوم، خاصة بعد عودة الاهتمام من الولايات المتحدة بأمور تغيرات المناخ، ورجوعها لاتفاقية باريس، أن يصبح موضوع تغيرات المناخ هو المهيمن على كل الأحاديث المرتبطة بالتنمية المستدامة، رغم وجود عناصر أخرى تتمثل فى التعليم والصحة، وأبعاد أخرى للبيئة، وأمور أخرى ترتبط بالنشاط الاقتصادي، والنمو، وإتاحة فرص العمل، ولا يمكننا مخاطبة الأفراد بأن هدف التنمية المستدامة يتمثل فى محاربة التغيرات المناخية الضارة فقط، هذا الأمر يمكن تحقيقه فى الدول المتقدمة التى حققت جميع أهدافها، على سبيل المثال الدول الإسكندنافية، والتى سيطرت على الفقر، وحققت المساواة والعدالة، ودشنت أفضل نُظم للتعليم والرعاية الصحية، لكن فى الدول التى لم تحقق ذلك، يجب أن يكون هناك منظومة أكثر تكاملًا فى النصح لصاحب القرار. لذلك فى العناصر الثلاثة التى تحدثنا عنها؛ الاستثمار فى البشر، والبنية الأساسية، وأيضًا الاستدامة بالمعنى الكامل للكلمة هى التى تساعد، ولكن ما نشاهده حاليًّا دعاوى فحواها أن الاستثمار فى مجال التصدى لتغيرات المناخ هو ما سيحل كل المشكلات، لا أعتقد ذلك، وأرى أن هذا نوع من أنواع التقصير فى فهم مشكلات الدول النامية، والأسواق الناشئة، ويمكن أن يكون فهم عال لاحتياجات الدول المتقدمة، لكننا نتحدث عن إطار عالمي، وليس إطارًا محليًّا، يصلح لدولة أو دولتين فى الجزء الشمالي.
حازم شريف: سؤالى الأخير فى الجزء الثالث من الحلقة، اليوم، يُدخلنا فى التفاصيل التى تهمّنا فى الوقت الراهن، حيث شهدنا ارتفاعًا فى أسعار الفائدة بالولايات المتحدة الأمريكية، على سندات الخزانة تحديدًا، ما تأثير ذلك على حركة الأموال حول العالم، والاستثمارات فى العالم، ومصر بالتأكيد جزء مما يحدث؟
محيي الدين: دعْنا نسأل أولًا، لماذا حدثت زيادة فى أسعار الفائدة على السندات، رغم أن أسعار الفائدة لدى «الفيدرالى الأمريكي» لم تتغير؟ والإجابة أن ذلك قد نتج عن عدة أسباب تشمل التدفق الكبير من الإنفاق العام من الولايات المتحدة، بما فى ذلك حزمة التحفيز الأخيرة بـ1.9 تريليون دولار، ما جعل الأفراد يتوقعون تعافى الاقتصاد بشكل أعلى، وأسرع، وحتى البعض يتحدث عن معدلات نمو غير مسبوقة للاقتصاد الأمريكى تتراوح بين 3 و6.5%، ما يعنى باللغة الاقتصادية حدوث «Overheating»؛ أى الزيادة الكبيرة فى الطلب بشكل أكبر، مما يحرك النشاط الاقتصادي، ما يؤدى ببساطة إلى تضخم، وحدوث تضخم مؤداه زيادة فى سعر الفائدة، وهناك اعتبار ثان مهم أنه فى حال حدوث مثل هذا التعافى السريع، فإن الدولة ستسحب يدها من الإنفاق السخي، وحُزم التحفيز، ما يترتب عليه احتمالية حدوث أزمة مشابهة لأزمة السندات فى 2013، عندما كان هناك نوع من أنواع الإدراك لسحب أدوات التيسير النقدي، ومن ثم رفع سعر الفائدة، وهذه التغيرات جميعها مرتبط بأثر التوقعات دون وقوع أحداث بعينها، لكن أسواق السندات شديدة الحساسية، والاستجابة لأى توقعات تتعلق بالنمو، والتضخم، وتداعيات ذلك على سعر الفائدة، والسوق لا تنتظر وتتخذ تحركات استباقية عن حركة السلطات. آخر اجتماع بالفيدرالى الأمريكى منذ أيام قرر تثبيت سعر الفائدة كما هو عليه، لكن ما زال الحديث عما سوف يتم فى الاقتصاد الأمريكى بالفعل، هل سيكون هناك تعافٍ سريع، وعالٍ، أو تعافٍ بطيء أو منخفض، جميع هذه التوقعات تعطى إشارات لما يحدث فى أسواق السندات، هذه هى الأسباب.
حازم شريف: أراك، تتحدث عن سياسة نقدية متحفظة، وسياسة مالية توسعية- إن جاز التعبير، ما تبِعات ذلك؟
محيي الدين: على العكس… هناك تناغم بين السياستين المالية والنقدية، المالية تنفق، والنقدية تساندها، ولكن ما يحدد المستقبل طبيعة الأزمة، وما إذا كانت أزمة مالية كالتى حدثت فى 2008، أو أزمة اقتصادية كالتى حدثت فى الكساد، أو أزمة صحية كالجائحة حاليًّا، ومن ثم فإن ما يحدد ما سيفعله البنك الفيدرالي، ويحدد ما تفعله المالية الأمريكية، هو ما سيتم فى البعد الصحى من الموضوع، حيث إنه إذا كانت هناك سيطرة على الفيروس من خلال انتشار اللقاح، قبل يوليو المقبل، فإن التعافى الاقتصادى سيكون سريعًا، وستكون بصدد وضع مختلف عما نذكره.
حازم شريف: وفى هذه الحالة هل ستواصل أسعار الفائدة ارتفاعها؟
محيي الدين: صعب التكهن؛ لأن الأمر لن يكون سريعًا، حيث إن الوضع فى الولايات المتحدة خاضع للمراقبة، وللتواصل مع الجهات المعنية، مع العلم بأنه لن يتم اتخاذ أى إجراء فى مقابلة كل حدث؛ لأن الأمر لن يكون سهلًا.
حازم شريف: سؤالى الأخير عن تأثير كل ذلك على حركة الاستثمارات العالمية؟
محيي الدين: أكيد سيكون هناك تأثير، ما دامت الدولة تقترض من السوق الدولية، ولديها سعر صرف يربطها بين ما يحدث داخليًّا وخارجيًّا، سيكون هناك تأثير على تكلفة التمويل، ومدى مرونة نظم وأسعار الصرف فى الدولة المعنية، ومن ثم تكون مسـألة موضع اعتبار للقائمين على السياسة النقدية، لذلك وُجدت البنوك المركزية لتقوم بدورها باستقلال، فى تحركات سعر الفائدة، وذلك على الأجل القصير، ولكن بالأجل المتوسط والطويل، وهو ما تحدثنا فيه سابقًا، فإن المطلوب هو وجود منظومة للنمو والتنمية أكثر اعتمادًا على الاستثمار والادخار المحلى أكثر مما هو عليه فى البلدان العربية.
حازم شريف: هل الفرصة مواتية لجذب استثمارات فى هذه الظروف؟
محيي الدين: مواتية للغاية، وتحتاج لبذل جهد، وفتح جميع المنافذ، سواء للاستثمار الجديد، .. وتحدثنا عن مجالات عديدة، كالتحول الرقمي، والتصدير، وتوطين التنمية، هى استثمارات ضخمة، أو سواء محليًّا أو مع شركاء، لدينا بعض المجالات التى يمكن فتحها للاستحواذ والمشاركة. التصدير أيضًا هام للغاية حيث إن حظ الدول العربية منه محدود للغاية، ومن ثم هناك فرصة لمضاعفة أرقام التصدير الحالية مرتين أو 3 أضعاف، دون مواجهة أى سياسات حمائية.