تشرفت بتقديم محاضرة لطلاب الفرقة الرابعة بكلية الهندسة، جامعة مصر الدولية فى أكتوبر 2009، بدعوة من صديقى أ.د خالد عصفور أستاذ العمارة بالكلية، عن أنواع المحاكم المصرية وآدمية الإنسان المصري، وكان العنوان جزءًا من مشروع طرح فيه د. خالد رؤية جديدة لتصميم مبانى المحاكم بمصر، ورغب فى إعطاء عمقا للعلاقة بين التصميم الهندسى لقصر العدالة أو المحكمة وبين آدمية الانسان المصرى أياً كانت صفته أو علاقته بالمبنى.
اذكر كلمتى الافتتاحية وقتها «إذا كانت العمارة موسيقى متجمدة، فالقانون منطقيات مُلزمة»، ومنها صممت رؤيتى لمفهوم متكامل بين هندسة المكان واستخدام الفراغ ومعانى الألوان وعلاقتها بمفاهيم العدالة، وبين تقديم خدماتها للمتعاملين معها وعلاقتهم بمرافقها. كان من أهم محاور المحاضرة أهمية أستظهار مبنى المحكمة لقيم «الأمن والكرامة» للمتعاملين معه، بغض النظر عن الحق أو المخالفة أو الجريمة، بما يسمح للمواطن بطلب حقه أو تنفيذ التزامه أو محاكمته عن جريمته، وهو آمن ومحفوظ كرامته كإنسان.
واقعيا، كانت مبانى المحاكم المصرية حتى 2009، تختلف تمامًا عن محاكم مصر 2020، من حيث المساحة والتصميم واستخدام الفراغ والإمكانيات والعلاقة بالتقنية، وانعكاس ذلك كله على علاقتها بالمواطن (وهى نقاط غطتها المحاضرة وقتها فعلًا).
كانت هناك مبان «بصورة» قصور للعدالة بمصر (هندست شكل العلاقة بين الحق والمستحق وأطرافه) كمبانى محاكم دار القضاء العالى بالقاهرة 1911 (والذى أفلس 4 مقاولين عند إنشائه لفخامته)، الأمور المستعجلة بعابدين، الحقانية بالمنشية بالإسكندرية، استئناف الإسكندرية، جنوب القاهرة بباب الخلق، قصر مجلس الدولة على النيل، ومؤخرًا، المبنى الجديد للمحكمة الدستورية العليا بنيل المعادي.
فى الواقع كانت تصميمات قصور العدالة أو المحاكم القديمة بمصر قبل المبنى الجديد للمحكمة الدستورية العليا، تعكس ثقافة مجتمع متكامل، من مصممين ومهندسين ومقاولين أجانب ومصريين، الكثافة السكانية معقولة، يحوى جاليات أجنبية ضخمة جدا، ثقافة أنفتاحية، طبقة متوسطة عماد المجتمع، مجتمع تعايش الفن فيه مع الدين مع التسامح مع التجارة مع الآخر مع القيم، بما أثمر وانعكس فى شكل مصر وقتها، سواء فى العمارة أو الفن أو القانون أو التدريس أو القضاء أو الثقافة أو السلوكيات.
فكما كان هناك أم كلثوم والعقاد والسنباطى وطه حسين وسيد درويش وعبد الوهاب ومنصور فهمى ومحمود سعيد ومختار، كان هناك السنهورى وعبد العزيز فهمى والهلباوى ومكرم عبيد ومرقس فهمى ومحمد على الغتيت وسابا حبشى ومصطفى مرعى وحسن كيره.
الجدير بالملاحظة علاقة مستوى وثقافة المجتمع، بتصميم مبانيه الخدمية، وبخاصة المحكمة، فى الريف والحضر، لتمتد إلى دور ودوار ومبان صغيرة بالمراكز والمحافظات، إلى أن تطورت تدريجيًّا بالتوازى مع تطور شكل وحجم المجتمع وأهله، لاختلاف نوعية الجمهور ومستواه الاجتماعى وذوقه الفنى ومعايير حكمه، بل وعلاقته بالفراغ والمكان والارتفاعات والالوان.
هذه العلاقة كانت أصيلة وواضحة خارج القاهرة والإسكندرية وقصور العدل القديمة، وقد يلاحظ تطورها فى المبانى الحديثة لمحاكم ما بعد 1952 فى مبانى محاكم المحافظات والمراكز، والتى أغلبها عمارات أو فيلات قديمة، منبتة الصلة بمفهوم العدالة أو الحق، غير أن ذلك أختلف مرحليا مع مبانى مجمع محاكم العباسية بالقاهرة أو الإسكندرية أو مصر الجديدة وبعض المحافظات، التى عكست الشخصية المجتمعية والسياسية والثقافية لمصر فى هذه المرحلة، لتأتى تصميمات هندسية حديثة نوعًا، مباشرة، دون طرز معمارية فنية، دون ثراء أو منمنمات أو فخامة الحق وصرامة الالتزام وموضوعية العدالة، فخرجت مبانيها شاحبة مرهقة، جافة، غرف مُعلبة، دورات مياه مستهلكة، أماكن حجز متهمين وزنازين خارج المواصفات.. إلخ.
استمرت ذكرى محاضرتى فى 2009، وأنا أشهد تطور أبنية المحاكم فى أطوارها الجديدة لتصل إلى 2020، وعودة تدريجية إلى مفهوم قصور العدالة القديمة بمناظير جديدة، ظهرت فى مبانى المحاكم الجديدة بالقاهرة والإسكندرية والمحافظات الكبري، ليس فقط على مستوى التصميم الهندسى والخامات المستخدمة، واستغلال الفراغ، ولكن أيضًا على مستوى علاقة وعاء العدالة بأدوات تقديمها من معرفة وتقنية وخدمات، ومحاولة أستعادة أصالة شكلية تدريجية.
كانت هذه المقارنة محورًا لحديثى مع أ.د حسن عبد الحميد، عميد كلية القانون بالجامعة البريطانية بالقاهرة، وأول من أطلق على كلية الحقوق بها، وصف (كلية الهندسة الاجتماعية)، فاذا كان القانون يؤسس على فكرتى الحق والالتزام، فإن تسمية (كلية الحقوق) نسبة لها وحدها، لا تستوعب روح القانون كاملة فى رأيه.
وجهة نظر العميد عبد الحميد تُحترم، لأستحداثه مفهوم كلية تعى دور القانون جيدًا، كمهندس للعلاقات الاجتماعية التى تتداخل وتتشابك فى كل مصالح وخدمات وانشطة المجتمع، بصورة تحتاج إلى مخرجات تقنينه وتوثيقه وفض منازعاته.
وهو ما أتفق فيه معى العميد، بأحد مقالاتى السابقة عن أهمية تطور معايير التعيين الحكومى بتجاوز الشهادات إلى بحث الخبرات والكفاءة الواقعية، وأهمية دور القانون والقانونى فى تصميم البنية القانونية للمشروعات، باعتبار القانون هو رمانة الميزان فى وجود وتطور وازدهار أى مشروع. ومن هنا أهتم العميد عبد الحميد، بأن يكون مفهوم ما يحصل عليه الطالب هو روح ومنهجية وآلية القانون فعلًا، لتخريج رجل قانون يعى قيمته ودوره وصلاحيته فى هندسة وتصميم وتطوير علاقات المجتمع، سواء كمحام أو قاض أو عضو نيابة أو خبير أو مستشار.
من هنا يمكن تصور العلاقة بين هندسة الفكر وهندسة المجتمع وهندسة العدالة. فى النهاية مصر 2020 وما بعد كورونا، تحتاج إلى إعادة هندسة لعلاقة العلم بالقيم، وعلاقتهما بمتلقيهم، بالمهنيين، بالوسيط الذى يقدمون فيه خدماتهم ويحصوله منه على حقوقهم ويؤدون التزاماتهم.
تجربتى فى محاضرة هندسة القانون عام 2009 ورؤية القانون كمهندس أجتماعى فى 2020، أثبتت لى أن وجود رؤية للأستاذ الأكاديمى فى تبصير طلابه بما يجاوز شهادة التخرج، وبلورة الفكر بالاحتياج الحقيقى لاستيعاب المجتمع للعلاقة بين الشكل والمضمون، ما يجعلنى على ثقة بأن فن التغيير وان كان بطيئًا إلا أن وجوده حقيقي، وما أكثر نماذج نجاح أصحاب الرؤى بمصر، التى نقلوها للخارج فطوروها، وينتظرون عدالة الفرصة لإنصاف الأجيال القادمة.
* محامى وكاتب مصرى