هناك غضب شديد فى الغرب. غضب بين الناس، الشرائح المتوسطة والدنيا من الطبقات الوسطى، فى أوروبا والولايات المتحدة. غضب نابع من خوف… من المستقبل، وما يحمله من تغيرات تشعر هذه الطبقات الواسعة، أنها خطرة عليها.
الخوف اقتصادى بالدرجة الأولى. شعور عام بأن المستقبل سيأتى بتراجعات كبيرة فى مستويات المعيشة، تضخم، فرص عمل أقل وغير ثابتة، انهيار فى مزايا العمل المتعارف عليها فى هذه المجتمعات الثرية، ارتفاعات فى سن المعاشات وتراجع فى القوة الشرائية.
الخوف سائد بين أجيال مختلفة. المقتربون من المعاش قلقون من احتمالية ضرورة الاستمرار فى العمل لسنوات أكثر كثيرًا مما تصوروا – واحتمالية مواجهة الكهولة من دون ما تعارفوا أنها ضمانات معيشية ستوفرها الدولة لهم. على الجانب الآخر، الجزء الأكبر من الشباب يرى نفسه فى حلقة مُفرغة من أعمال مؤقتة، معظمها بلا أى ضمانات اجتماعية، بلا علاقة بما درسوا، وبلا أى فرص للارتقاء فى السلم الاجتماعى.
الخوف يزداد مع مشاعر الكثيرين بالعجز عن تغيير الظروف المحيطة بهم. فأغلب التيارات الكبرى المُشَكِلة للاقتصاد العالمى – مثل العولمة وصعود آسيا والتكنولوچيات الحديثة (بالذات فى تعلّم الأجهزة والذكاء الصناعي) – شديدة القوة. وإذا كانت هذه التيارات الاقتصادية والصناعية بدت، لسنوات، بعيدة عن الحياة اليومية للناس، فهى الآن مُؤثرة بوضوح فى عملهم وعيشتهم وأمن مستقبلهم.
ولكن كل تلك التيارات الكبرى، أيضًا، تبدو قادمة كالأقدار، لا راد لها ولما تحمله من تبعات.
هذا الإحساس يُولِد الشعور بالعجز. والعجز يُولِد غضبًا.
والغضب قد تزايدَ بشكل مهول فى العقد الأخير، منذ تفْجُر الأزمة المالية فى 2008. المشكلة لم تكن فقط فى مضاعفات الأزمة. الأهم كان الشعور الذى ساد أن الهياكل السياسية الحاكمة فى الولايات المتحدة وأوروبا، قد أنفقت مئات المليارات من الدولارات لإنقاذ بنوك وشركات وصناديق استثمار، كان معظمها من المتسببين الرئيسيين فى حدوث الأزمة، بينما تحملت الطبقات الوسطى وما تحتها فى هذه المجتمعات أعباء هذا الإنقاذ وما أعقبه من تداعيات.
ضاعف من الغضب أن الدولة (سواء فى الولايات المتحدة أو أوروبا) بدت، فى الكثير من الحالات، تستعمل مالاً عامًا وتُحمّل دافعى الضرائب أعباء مهولة فى المستقبل، لإنقاذ مؤسسات ليس واضحًا تمامًا ما الذى تقدمه فعلاً لمجتمعاتها.
كما أن هذه الإنقاذات المالية لم تُغير من واقع أن شريحة رفيعة جدًّا من كبار ملاك الأصول ومديرى الشركات عابرة القارات وصُناع التكنولوچيا الحديثة والمصرفيين والمضاربين قد طفوا على سطح هذه المجتمعات، بثروات خيالية.
وفى خضم الإنقاذات المالية والتبعات القاسية التى جاءت فى أعقابها، ظهرت تساؤلات مثل: لماذا لم يدفع أحد – على المستوى الشخصى – ثمن الأخطاء والخطايا الفادحة التى أدت إلى الأزمة المالية؟ لماذا تتحمل الطبقات الوسطى أثمان وضرائب إنقاذ هذه الشركات والبنوك، وهذه الطبقات، من قبل ومن بعد، أبعد ما تكون عن صُنع السياسات الاقتصادية؟ ولماذا لم تُحدِث الأزمة وما تلاها أى تغيّرات هيكلية فى السياسات الاقتصادية، خاصة فى مكامن السيطرة فى الاقتصاد العالمى؟
السؤال الأهم، الذى طرح نفسه فى السنوات العشر الماضية، بالذات بين الطبقات التى شعُرت بالتداعيات الاقتصادية للأزمة، كان: لماذا لا تستطيع – أو لا تريد – الطبقات السياسية مواجهة التيارات الكبرى فى الاقتصاد العالمى؟
هذه الأسئلة قد تبدو عادية، بل معبرة عن الواقع، فى مجتمعات كثيرة. ولكنها شديدة الأهمية فى الغرب، الذى رأت مجتمعاته (لعقود) نفسها على أنها قمة التجربة الديمقراطية والليبرالية فى التاريخ الإنساني. كما أنها أبرزت مشاكل كبرى لحقت بتطبيق الرأسمالية فى الغرب، فى العقود الثلاثة الماضية. الأهمية تكمن فى أن الأسئلة أدت إلى إجابات، إما غير شافية، وإما مؤدية بالكثيرين، لرفض الهيكل السياسى الذى وصل بالمجتمعات إلى هذا الوضع.
هذا الرفض، والذى تحوّل إلى غضب، بالذات بين الطبقات الدنيا (اقتصاديًّا)، عبر عن نفسه فى صعود تيارات أقصى اليمين واليسار، تقريبًا فى كل الانتخابات الرئاسية والپرلمانية فى الولايات المتحدة وأوروبا، فى السنتين الماضيتين.
لكن ما هو قادم قد يكون أكثر أهمية. فأقصى اليمين واليسار، غالبًا، لن يأتوا بحلول للمشاكل الاقتصادية وللتغيرات التى تحملها التكنولوچيا الحديثة. هذا يعنى أن الغضب سوف يزيد. وأغلب الظن، أن التعبير عنه سوف يكون فى الموجة القادمة فى السياسة الغربية، أكثر حدةً مما هو بادٍ الآن. والغالب أن هذا التعبير سوف يستهدف شكل وتطبيق الرأسمالية الغربية نفسها.
- كاتب مصرى مقيم بلندن