الغباء ليس جريمة

الغباء ليس جريمة
طارق عثمان

طارق عثمان

6:51 ص, الأحد, 12 أبريل 20

حديث رئيس مجلس إدارة ومدير تنفيذى سابق لجولدمان ساكس ، يستحق التوقف أمامه، ليس فقط لأن مثل هذا الحديث نادر الحدوث، ولكن أيضاً لأن ذلك البنك بالتحديد كان لأكثر من ثلاثين سنة – حتى منتصف العقد الماضى – المؤسسة الأكثر نفوذًا فى أهم دوائر المال والأعمال فى الغرب، وذات نفوذ قوى فى الحكومة الأمريكية، لدرجة دعت البعض لتسمية المؤسسة Government Sachs وليس Goldman Sachs.

المتحدث هنا للويد بلانكفاين، وقد كان ولا يزال مثيراً للانتباه. الرجل كان على رأس «جولدمان» فى المرحلة التى سبقت مباشرة الأزمة المالية فى 2008 وكان فى قلب المباحثات لإنقاذ النظام المالى العالمى (أو الغربي) التى أعقبت لحظة الانفجار فى صيف ذلك العام، كما أنه كان واحد من أهم الشهود أمام الكونجرس الأمريكى عندما نظر فى أسباب ما حدث. لكنه وبالرغم من كل ذلك، لم يشأ أن يتحدث عما شاهده وشارك فيه، حتى بعد أن ترك رئاسة جولدمان.

كما أنه، على عكس تقريباً كل من سبقوه فى رئاسة البنك، لم يخرج منه الى منصب رفيع فى الإدارة الأمريكية.. ولعله من المهم التذكير، ان وزراء الخزانة (المالية) فى إدارات بيل كلينتون وجورج بوش ودونالد ترامب جاءوا من قمة الهيكل الإدارى لجولدمان، كما أن أهم مستشار اقتصادى لباراك أوباما كان من الدائرة نفسها.

سكوت وابتعاد بلانكفاين لفترة طويلة جعلت حديثه الآن مثيرا للاهتمام.

الحديث كان على غذاء طويل مع إدوارد لوش، وهو صحفى بريطانى مقيم فى نيويورك وواحد من أهم مراقبى الولايات المتحدة. أما التركيز فى الحديث فكان عن المستقبل بأكثر مما كان عن الماضى وما حدث قبل وأثناء الأزمة المالية.

ثلاث نقاط أثارها بلانكفاين قد تكون مهمة لمتابع لمجريات الولايات المتحدة.

الأولى عن الانتخابات الرئاسية فى 2020. بلانكفاين، كصاحب ثروة تتعدى المليار دولار، قد يبدو مؤيداً طبيعياً للحزب الجمهورى، خاصة أن الحزب يتبنى منذ عقود فكرة خفض الضرائب كوسيلة رئيسية لدعم المبادرة وأخذ المخاطر وخلق قوة فِعل فى الاقتصاد الأمريكى. كما أن بلانكفاين قد دخل فى مناوشات عدة (على تويتر) مع بيرنى ساندرز (القادم من يسار الحزب الديمقراطي). بالرغم من ذلك، فإن التيار الاجتماعى الذى ينتمى إليه بلانكفاين كان دائماً شديد القرب من الحزب الديمقراطى، ومن ثم فإن الرجل، وقد وضح أنه قابل لفكرة إعادة انتخاب دونالد ترامب، يفتح أذهان المتابعين على انشقاقات كبيرة تحت السطح فى الحزب الديمقراطى، وهى مؤثرة خاصة فى تمويل الحزب.

النقطة الثانية متعلقة بهيكل القوة فى الولايات المتحدة. قصة تراجع أرباح ونفوذ جولدمان ساكس، كثيرًا ما يُنظر إليها من زاوية التغيرات الكبرى التى حدثت فى عالم البنوك بعد الأزمة المالية. ولا سيما القواعد الصارمة التى وضعها الاحتياطى الفيدرالى حول أخذ المخاطر ونسب الدين لرأس المال والتعامل فى المشتقات المالية وغيرها. كل ذلك صحيح. لكن قبل وبعد ذلك، هناك نقطة متعلقة باتجاهات صنع الثروة فى الولايات المتحدة، وهى أن المركز هنا قد انتقل بشكل كبير من صناعات (أو خدمات) دائرة فى فلك الأسواق المالية إلى صناعات دائرة فى فلك تكنولوجيات الاتصال والمعلومات. بلانكفاين لمس ذلك بإشارات إلى تغير اتجاهات حركة القوة فى الولايات المتحدة.

النقطة الثالثة، بالضرورة، متعلقة بالأزمة المالية، فلم يكن ممكنا لمراقب مثل لوش أن يجلس لفترة طويلة مع بلانكفاين بدون أن يأخذ منه ولو رؤية سريعة لـ «لماذا حدث ما حدث». إجابة بلانكفاين لم تحمل معلومات جديدة ولم تقدم تفسيراً مختلفاً عما وُضِع من قبل من عشرات المحللين. لكن الرجل، ربما بعفوية أهل نيويورك التقليدية، قال إنه فى الغالبية الساحقة من الحالات، وكما ظهر من مئات الآلاف من الأوراق التى كُشِف عنها من تحقيقات أُجريت مع أهم بنوك الولايات المتحدة ومنها جولدمان، أن سوء النية لم يكن موجوداً. ما كان سائدًا فى أروقة الكثير والكثير من المؤسسات المالية كان «غباء». هنا حدق بلانكفاين فى وجه محدثه قبل أن يقول: «والغباء ليس جريمة».

* كاتب مصرى مقيم فى لندن