على قدر ما اتفق النقاد تقريبًا على انتقاد ما شاب كتاب الديوان من عنف وتجريح، على قدر ما اتفقوا تقريبًا إلاَ القليلين جدًّا على سداد النظر الذى اعتنقه العقاد حول نظريته فى الشعر، كذلك شكرى وإن خلا الكتاب إلاَّ من الهجوم عليه بضراوة كما أسلفنا، أما المازنى فقد انصرف إلى المنفلوطى ونثره، أما ما تعرض فيه لشعر عبد الرحمن شكرى فقد جانبه التوفيق والسداد، بل واللياقة، على نحو ما تقدم.
ومن المعروف أن العقاد كان أسبق كتابةً والمازنى لكتاب الديـوان الـذى صـدر فى يناير/ فبراير 1921، من ميخائيل نعيمة الذى صدر كتابه الغربال بعد سنتين فى عام 1923، وبرغم أنهما لم يتقابلا ونفى كل منهما تأثره بالآخر، إلاَّ أنهما قد اتفقا فى الخطوط العريضة، وكذلك شكرى، فيما أبان الدكتور محمد مندور فى كتابه القيم « النقد والنقاد المعاصرن».
وأول الأصول التى تتبدى فى نظرية العقاد فى الشعر، سواء فى الكتاب أو فيما كتبه بعده من مقالات أسلفناها، أن الشعر فى نظره «ليس صنعة»، ولا زخرفًا ولا لهوًا، وإنما هو «لباب اللباب» كما يقول الدكتور ماهر شفيق فريد فى تقديمه لطبعة مكتبة الأسرة ومهرجان القراءة للجميع لكتاب الديوان، فالشعر عند العقاد هو إذن «لباب اللباب»، وأداة لمعرفة الذات والآخرين والكون. والشاعر المطبوع هو الذى يجمع بين عمق الفكرة ورهافة الوجدان وخصوبة الخيال والتمكن فى اللغة. إنه الذى يفرق بين شبهات السرائر وهواجس النفوس والضمائر وهمسات العواطف. يقولون إن أُذن الموسيقى المطبوع تميّز فيما قال الدكتور ماهر شفيق فريد بين ثلاثة آلاف نبرة، ومن ثم فلا مغالاة فى القول بأن فطرة الشاعر المطبوع ينبغى ان تميز بين ثلاثة آلاف خاطرة من خطرات الإحساس المتوشجة المتنوعة.
وأورد الدكتور مندور الواجب تحيته على موضوعيته رغم عدم توفيقه فى ترتيب موضوعاته، ورغم خصومته واختلافاته مع الأستاذ العقاد أورد نقلاً عن شكرى أحد أضلاع مدرسة الديوان أن أجل الشعر هو ما خلا من التشبيهات البعيدة والمطالعات المنطقية . أنظر مثلاً فيما يسوق شكرى إلى قول « مويلك » يرثى إمرأته وقد خلفت له بنتًا صغيرة، فطفق يصف حالها بعد موت أمّها:
فلقد تركتِ صغيرةً مرحومةً
لم تَدْرِ ما جَزَعًا عليك فنجزع
فقدت شمائلَ من لزامك حلوةً
فتبيتُ تسهر أهلها وتفجع
وإذا سمعت أنينَهًا فى ليلها
طَفَقتْ عليك شئونُ عينى تدمع
فهو لم يعلمك شيئًا جديدًا لم تكن تعرفه، ولم يبهر خيالك بالتشبيهات الفاسدة والمغالطات المعنوية، ولكنه ذكر حقيقته، ومهارته فى تخيل هذه الحالة ووصفها بدقة .. ومن أمثال هذا النحو قول ابن الدمينة فى وصف حياء الحبيبة:
بنفسى وأهلى من إذا عرضوا له
ببعض الأذى لم يَدْرِ كيفَ يجيب
ولم يعتذرْ عذرَ البرىء ولم تزل
وبه سكتة حتى يقال مريب
مثل هذا الشعر يصل إلى أعماق النفس ويهزها هزًّا، والشعر هو ما ( أشعرك ) وجعلك تحس عواطف النفس إحساسًا شديدًا.
ويتوقف الدكتور مندور لينقل إلينا فقرات مهمة مما كتبه العقاد فى كتاب الديوان، تعبيرًا فيما يرى ـ عن تبنيه هذا الفهم الجديد لوظيفة التشبيه فى الشعر، وجعل منه أحد الأسلحة العنيفة التى هاجم بها شوقى وشعره فى كتاب « الديوان »، حيث يوجه حديثه إلى شاعرنا التقليدى الكبير أحمد شوقى فيقول:
«اعلم أيها الشعر العظيم أن الشاعر من يشعر بجوهر الأشياء، لا من يعدها ويحصى أشكالها وألونها . وأنه ليست مزية الشاعر أن يقول لك عن الشىء ماذا يشبه ؟ وإنما مزيته أن يقول ما هو ؟، ويكشف لك عن لبابه وصلة الحياة به».
«وليس هم الناس من التصعيد أن يتسابقوا فى أشواط البصر والسمع، وإنما همهم أن يتعاطفوا ويودع أحسهم وأطبعهم فى نفس أخوانه زبدة ما رآه وسمعه، وخلاصة ما استطابه أو كرهه، وإذا كان وكدك من التشبيه أن تذكر شيئًا أحمر، ثم شيئين أو أشياء مثله فى الاحمرار، فما زدت على أن ذكرت أربعة أو خمسة أشياء حمراء بدل شئ واحد، ولكن التشبيه أن تطبع فى وجدان سامعه وفكره صورة واضحة، مما انطبع فى ذات نفسك، وما ابتدع التشبيه لرسم الأشكال والألوان . فإن الناس جميعًا يرون الأشكال والألوان محسوسة بذاتها كما تراها، وإنما ابتدع لنقل الشعور بهذه الأشكال والألوان من نفس إلى نفس . وبقوة الشعور وتيقظه وعمقه واتساع مداه ونفاذه إلى صميم الأشياء يمتاز الشاعر على سواه . ولهذا لا لغيره كان كلامه مؤثرًا، وكانت النفوس تواقة إلى سماعه واستيعابه لأنه يزيد الحياة حياة، كما تزيد المرآة النور نورًا، فالمرآة تعكس على الوجدان إحساسًا بوجوده . وصفوة القول أن المحك الذى لا يخطئ فى نقد الشعر هو إرجاعه إلى مصدره، فإن كان لا يرجع إلى مصدر أعمق من الحواس فذلك شعر القشور والطلاء، وإن كنت تلمح وراء الحواس شعورًا حيًا ووجدانًا تعود إليه المحسوسات، كما تعود الأغذية إلى الدم، ونفحات الزهر إلى عنصر العطر، فذلك شعر الطبع القوى والحقيقة الجوهرية، وهناك ما هو أحقر من شعر القشور والطلاء وهو شعر الحواس الضالة والمدارك الزائفة، وما خال غيره كلامًا أشرف منه إلا بكم الحيوان الأعجم».
● ● ●
وهذا كلام رائع يدل فيما يقول الدكتور مندور على فهم صحيح لحقيقة الشعر كما يفهمه الغربيون، وإن كان الملاحظ أنه يجمع ويمزج بين عدة مذاهب شعرية تتصارع ولا تزال تتصارع فى الغرب، مما يقطع بأنها خلاصة الرواسب التى استقرت فى نفس العقاد وصحبه من مراجعاتهم لشعر الغربيين ومذاهبهم الشعرية .
«فالعقاد فى هذه الفقرات القوية المركزة يريد من الشاعر أن يكشف لنا عن لباب الأشياء، ولكننا فى الحقيقة لا نعرف عن هذا اللباب شيئًا، ولا يزال الفلاسفة يقتتلون حول تحديده، فمنهم الوضعيون الذين يسلمون بوجود الأشياء وجودًا حسيًا منفصلاً عن الإنسان، ومنهم المثاليون أو النفسيون الذين لا يؤمنون بوجود خارجى لتلك الأشياء ولا يعترفون لها بلباب . وإنما يرونها صورًا ذهنية عند الإنسان ويرجعون لبابها إلى هذا الصور أو الانعكاسات إلى صور مثالية مجردة بعيدة عن عالمنا المحسوس . والوضعيون يرون فى معطيات الحواس وسيلة فعالة لتحقيق صور الأشياء الذهنية، بينما يرى المثاليون والنفسيون أن تلك الصور الذهنية لا تستطيع أت تحققها، بل تقتصر على إحداث وقعها فى الذهن، وبتمايز ذلك الواقع تتمايز الأشياء . وعلى أساس كل من وجهتى النظر الفلسفيتين ظهر فى الشعر المذهب البرناسى القائم على عنصر البلاستيك أى التجسيم ، وهم يطلبون إلى الشعر تصوير تلك المجسمات بفضل معطيات الحواس التى هى أبواب النفس البشرية، وذلك بينما يرى الرمزيون وأنصار الشعر الصافى أن وظيفة الشعر إنما هى نقل وقع الأشياء من نفس إلى نفس، فالشعر عدوى ونقل حالات نفسية لا تجسيم أو تفسير أو نقل معان أو صور محددة . ولذلك يقولون بنظرية «العلاقات» التى عبر عنها «بودلير» فى بيت شعر له بقوله: «إن العطور والألوان والاصوات تتجاوب» أى تتبادل ويحل بعضها محل بعض فى إحداث الوقع النفسى الواحد، بحيث يستطيع الشاعر أن يصف مرئيًا بصفة ملموس، فيقول مثلاً عن السماء المغطاة بسحب رمادية بيضاء: إن لونها. كان فى نعومة اللؤلؤ. واللون لا يعبر عنه فى اللغة التقليدية بالنعومة، ولكننا مع ذلك نحس قوة التعبير ونجاحه من الناحية النفسية إذ نراه ينقل إلى نفوسنا إحساس الشاعر الحقيقى، ووقع ما رأى فى نفسه. وهذا اتجاه له أصوله فى حقائق اللغة ووظائفها، بل فى لغة الشعراء التقليدين أنفسهم حيث نرى شاعرًا عريقًا فى محافظته على عمود الشعر العربى كالشيخ على الجارم يقع متأثرًا بهذا الاتجاه الجديد، أو منساقًا بشعره الغلاب، على هذا النحو الجديد من التعبير، فيقول:
أسوان تعرفه إذا اختلط الدجى بالنبرة السوداء فى أناته
فالنبرة صوت، والتقليد لم يجر بوصف الأصوات بالألوان لاختلاف الحاسة، ومع ذلك يصف الجارم تلك النبرة بأنها سوداء، فيكسب تعبيره قوة شعرية نافذة ناجحة فى إحداث العدوى ونقل الحالة النفسية من الشاعر إلى القارئ أو السامع».
rattia2@hotmail.com
www. ragai2009.com