العبيد قادمون

العبيد قادمون
حازم شريف

حازم شريف

7:49 م, السبت, 19 أبريل 14

حازم شريف يكتب:

“إحنا أسياد البلد..وهنفضل أسياد البلد “!!

قالها شيخ البلد بصوتٍ جهوري، رفع من حِدَّةِ توتره، غضبٌ تراكمَ  في صدره على مدار نحو ثلاث سنوات، عندما اندلعت الفتنة .

تردد صدَى صوتِه بقوة، ارتجّتْ لها بعنف جدرانُ مضيفة دوّار العُمدة، في اجتماعٍ تاريخي، يُنتظر أن يحدد مصير القرية لعهودٍ قادمة

بجانب شيخ البلد والعمدة، احتلَّ أرائك المضيفة شيخُ الخفر ومساعده، وزوجة العمدة الحاجّة نبوية، وابنه الأكبر واصف، والشيخ مبروك، صاحب الكرامات، وعبيط القرية معتوق، والغازيّة سعدية .

استقرار شيخ البلد في مجلس العمدة منطقي، فوظيفتهما بحكم منصبيهما واحدة تقريبًا مع تراتبية أعلى للعمدة .. حفظ الأمن والنظام  وحل المنازعات .. وهي منازعات قد تنشأ  بين أهل القرية بعضهم البعض، أو من بين هؤلاء الأهالي المغلوب على أمره، والسلطة، متجسدةً في أعضائها ومحاسيبهم.. يتحدان معًا “العمدة وشيخ قريته”، في خلطة قوة وسطوة، تجمع مهام السلطتين التنفيذية والقضائية وأحيانًا التشريعية في آنٍ واحدٍ !!

 حضور شيخ الخفر ومساعده المجلس لا غِنى عنه أيضا، بوصفهما ممثلي آلة البطش الأمنية، والحاجّة نبوية وواصف، باعتبارهما مَنْ يُكملان مثلث العائلة الحاكمة .

شيخ الخفر يروِّج دائمًا لذاته المتعجرفة،  باعتباره من  يتولى شرف الدفاع عن حدود القرية الخارجية من قاطعي الطرق واللصوص، في حين يستحوذ نائبه لنفسه، على شرف حماية الأمن الداخلي .

التَجْرِبَةُ العملية أثبتت أن الاثنين يوجِّهان جهدهما بأكمله لاستتباب الأمن الداخلي، والحفاظ على استقرار حكم العمدة. فأسطورة تهديد قُطّاع الطرق واللصوص لا وجود لها، سوى فيما يرويه معتوق من قَصَصٍ، يطوف ناشرًا لها أرجاء القرية .

أما أصل الأسطورة من  قُطّاعِ طرق ولصوص حقًّا، فقد تحالف معهم العمدة وعصابته منذ أمد بعيد، في علاقة بُرجماتية، تضمن مصالح الطرفين، السلطة والنفوذ للعمدة وزُمرته، والغنائم للجميع .

معتوق .. في الأربعينيات من عمره، في صغره شهد له بالنبوغ، شيخُ الكُتَّابِ بالقرية، وأساتذته بمراحل التعليم المختلفة بمدارس المركز المجاور. ماتت أمه، بعد أن وضعته بساعات، فبات وحيد أبيه، أبوالمكارم، أحد خفراء العمدة المخلصين، ثم مات أبوالمكارم في حادث غامض، قِيل إنه وقع في فناء دار العمدة، على أيدي قاطع طريق استباح خزين منزل العمدة، ثم حاول استباحة زوجته نبوية، ففاجأه وجود أبوالمكارم،  فقتله وهرب خوفًا من تكاثر الخفراء عليه، الذين هرْوَلوا للمكان فور سماعهم دويَّ الطلْقِ الناري الوحيد، الذي ضجّت به السماء في هذه الليلة .

لم يُفَسّرْ أحد أبدًا.. سبب وجود أبوالمكارم في الواحدة صباحًا في دار العمدة النائم !

ولعل ذلك الغموض، مع فاجعة فقد الأب والعائل، وسوء معاملة واضطهاد غير مُتوقَّعَيْن من جانب العمدة وحاشيته – فيما عدا شيخ خفره – لمعتوق الذي ترك دراسته الثانوية في عامها الأخير..تضافرت كلها كمبررات كافية أمام الأهالي على الأقل، لتبدل سلوك ذلك المعتوق تدريجيًّا، من مُراهِقٍ يفيضُ بالحيوية، لشابٍّ منطوٍ،  يتهرب من مواجهة الآخرين، تنتابه أحيانًا موجاتٌ من الصياح التبشيري، إمَّا مُحذِّرًا من خطر على وشك أن يلم بالقرية، وإما كاشفًا لحقيقة فتنة أحاقت بها بالفعل ..وما بين هذا وذاك، يجلس هادئًا على باب دار العمدة، يقتات على ما يقدمه له الخدم والخفراء .

لم يلتفت أحد إلى أن نوْبَته الهيستيرية الأولى، قبل أكثر من عشرين عامًا، سبقت بأيام معدودات، استيلاء العمدة على فدان مملوك لأسرة بسيطة، ادّعى معتوق في نوبته، أن عائلها قد أعان عددًا من قُطّاع الطرق، على إنجاز سرقات متعاقبة، لمواشي سكان القرية .

ثم تأكدت رواية معتوق حين أعلن العمدة وشيخ القرية أن الشاب قد اعترف في تحقيقات شيخ الخفر بجريمته، وأصدرا حكمًا بُمصادرة أرضه، ونفيه وأسرته إلى خارج البلدة، وهلل الشيخ مبروك لمعاقبة المُفسدين في الأرض .

ومن يومها تحوّل معتوق الى وسيلة إعلام مصدقة.. ولم يعر أحد اهتمامًا، لتغير معاملة العمدة وحاشيته معه..  بإيعاز من “الباشا” شيخ الخفر. كذلك اعتاد الجميع اختفاءه من حين لآخر، لأيام وأسابيع، تظل خلالها فرشته الملاصقة لباب دوار العمدة خاوية !

سعدية  قصة أخرى .. تحكي دائمًا أن أباها كان من الأعيان بالصعيد.. حقيقة الأمر أنه كان مجرد تاجرٍ متواضعٍ للطيور،  طمع في توسيع نشاطه للمواشي ففشل، وتراكمت عليه الديون والديّانة بعد أقل من عامين، عاش فيهما مع أسرته حياة البذخ، فهرب تاركًا وراءه عائلة من زوجة وثلاثة أطفال، أكبرهم سعدية .

كانت مجرد مراهقة في التاسعة عشرة من عمرها، أدار رأسها الثراء المفاجئ، فطلّقتْ نفسها من زوجها، وعادت لبيت أبيها، قبل أيام معدودات من إفلاسه، تاركة خلفها بنتًا كالبدر،  لم يتجاوز عمرها العامين .

لم يكن زوجها فقيرًا، بل كان أيسر حالاً بكثير من أبيها، قبل أن يداهمه ثراءٌ لم يدُمْ طويلاً، في بداية تجارته للمواشي، ولكنه كان كافيًا لغواية ابنته وتمردها، طمعًا في حياة، لطالما سمعت بها، وطالعت مظاهرها فيما تسرّب إليها من صور بعض المجلات، وعاينت قشورها الخارجية في زيارتها الوحيدة مع أبيها للعاصمة .

 اضُطرَّتْ لأنْ تخرج للعمل مع أحد الديّانة،  ما لبث أن راودها عن نفسها في مقابل استيفاء الدَيْن وعدم الحجز على منزل العائلة، في البداية رفضت وصدَّته بعنف، ومع تزايد الضغوط حاولت المراوغة بحجج متنوعة، استحلفته بكل عزيز وغالٍ، لم يرتدع، استعطفته، لم يرمش له جفن، أعربت عن استعدادها لأنْ تعمل في خدمته وزوجته مدى الحياة بلا مقابل، فلم يهتز له ساعد، لجأت لارتداء النقاب، لعله يشكل حاجزًا دينيًّا أخلاقيًّا يردعه .. راوغها بدوره متظاهرًا بالتأثر والورع، ووعدها بالزواج العرفي .

رضخت، وعبر مئات المرات من الرضوخ، وفَّى بكل وعوده تدريجيًّا، فلم يحجِزْ على المنزل، ومزّق أمامها إيصال الديْن، ومنحها راتبًا شهريًّا عن عمل في دكانه لم تقم به قط .. ولكنه أبدًا لم يتزوجها عُرْفيًّا .

سعدية لا تمارس البغاء.. تصر في أحاديثها العلنية أمام نساء ورجال القرية، أن تصدح بقبولها مبدأ الزواج العرفي، كواقٍ للعِفَّةِ،  برخصة من “مبروك”، وتحت رعاية شيخ البلد .. ولكن أحيانًا.. وفي الخفاء.. تبيح الضرورات المحظورات، بتشجيع شيخ البلد أيضًا، بل بمشاركة منه في إيتيان المحظورات .

حين تتيسر أحوالها المالية وتخف عنها وطأة الضغوط، تتقمص في صدق، أداء امرأة محترمة، ترغب في الزوج والرزق الحلال، ولكنها حين تتعثر أو يهددها شيخ البلد إذا ما تقاعست عن أداء المطلوب، ترتد بالغريزة وتتخذ من الوضاعة خليلاً !

لا يدعو الأمر لأي دهشة، فشيخ البلد هو من التقطها من أحد الموالد، أثناء زيارته أسرة زوجته بقرية تقع بمحافظة مجاورة، شاغَلَها فأبت أن يقترب منها إلا بورقة زواج عرفية، ففعل في زيجة أقرب للمتعة منها إلى العُرفي…ثم اصطحبها بعد تطليقها القرية، وافتتح لها مقهى على أطراف البلدة، لا ترقص فيها، ولا تقدم المشروبات الكحولية، أقصى ما يُسمح به الجوزة “المحشية”، برخصة من مبروك أيضًا ، وخدمة الزواج العرفي، لبعض الزبائن المختارين بمعرفة شيخ البلد وبمعاونة وحماية الخفر، من قُطّاع الطرق، وشباب القرية .

وهكذا يمكن القول إنه كما أن شيخ الخفر هو الأب الروحي لمعتوق. فإن شيخ البلد هو الأب “العرفي” لسعدية .

ففي عشش الزواج العرفي، تنجز وتتحسن شروط الأعمال مع قُطّاع الطرق، ويخر شباب القرية بفعل سخونة الفراش، بأسرار عائلية، قد تصلح  لا بتزاز أصحابها مستقبلاً، ويتفاخر بعض المتهورين منهم، بما يحيكونه من مؤامرات للتمرد على سلطة العمدة.. حينها ينتفض قُطّاع الطرق واللصوص، بأمر من العمدة، وتزأر آلته الإعلامية معتوق بصيحاته التحذيرية عن الجريمة المشئومة أو الخيانة المزعومة، أو العمالة المأجورة، يتم القبض على المتآمرين، ويعترفون بجريمتهم في تحقيقات شيخ الخفر، ليصدر العمدة مع شيخ البلد حكمهما الباتر، فيتلقفه الشيخ مبروك بالتهليل، ويشبه صاحبيه بالصالحين، ويدعو الله في العلن، أن يدخلهما فسيح جناته .

تحرّكت  الأمور بصورة غير مألوفة قبل نحو ثلاث سنوات، حين عاد بعض شباب القرية من دراستهم  في إجازتهم الصيفية. لم تكن وجوههم متعبةً يائسةً شاحبةً كعادتها كل عام، ولا ألسنتهم يلفها الصمتُ حتى داخل البيوت ككل زيارة موسمية، ولا يهابون السلطة، كما كانوا بالسابق، بتعمد تجنب المرور بالدروب المؤدية لداري  العمدة وشيخ البلد، التي ينزرع بها الخفر، بل أصبحوا “يتبجحون” بالسير فيها بخطوات ورؤوس يغلفها التحدي .

صاروا يفنِّدون فتاوَى الشيخ مبروك، ويسْخرُون من حكاوي ومؤامرات

معتوق، وينظمون أنفسهم في لجان شعبية لحماية ممتلكات سكان البلد من الخفراء وقطاع الطرق، ويرفضون ارتياد مقهى سعدية وعششها العرفية، ويضعون شرعية حكم العمدة على المحك .

ثلاث سنوات من تعطل الأعمال، لم تنمُ فيها أطيان العمدة وشيخي قريته وخفره، قيراطًا واحدًا، ولا مصاغ سعدية ورصيدها النقدي اللذان تكتنزهما في سحارة مخفية بمنزلها المتاخِم لقهوتها وعششها،  حتى معتوق نفسه انعدمت رحلات اختفائه التي كان يستغلها في تغذية حسابه بفرع أحد البنوك بالمركز، والاستجمام بمنزله الوثير به .

المستفيد الوحيد كان الخفراء الذين تضاعفت رواتبهم عدة مرات، لضمان الولاء والصمود .

اتخذ تمرد الشباب شكل موجات، تراجعَ هديرُها  من عام لآخر، مع إجراءات التضييق، وألاعيب العمدة وحاشيته، التي فتحت لحسابها خزائن الثروة المكتنزة .

تحولت الموازنة الحكومية المتواضعة، بقدرة قادر لبند الأمن وتمويل أنشطة قُطّاع الطرق، بدلاً من مسارها التقليدي التاريخي، في تنفيذ مشروعات بسيطة لا تخلو من رشاوَى وهدر، كانت تحفظ البلد وسكانه بالكاد على قيد الحياة .

ضاقت الأرزاق وساد النهب وتوغّل الفساد، وسكنت العاصفة إلى حين .. حتى كان هذا الاجتماع “الأخير”، الذي أطلق فيه شيخ البلد هتافه الزاعق، زهوًا بما حسبه أنه اقترابٌ للنصر: “احنا أسياد البلد وهنفضل أسياد البلد “.

خَيّمَ هدوء الموت على المكان، بعدما جلجل صوتُه المغلول المتكبر، وتبدد صداه هباءً في الهواء..هدوءٌ تسلسل إليه حثيثٌ من بعيد، صخبٌ متصاعدٌ، خليطٌ من صيحات البشر الهادرة، وطرقات أقدام غاضبة  تدق الأرض، وتنهبها نهبًا تجاه المكان .

 أصوات طلقات نارية لم تلبث أن سكتت أو تم إسكاتها، تلاها جلبة هرجٍ ومرجٍ وكرّ وفرّ خارج الأسوار الشاهقة، التي تحرس في شراسة دار ودوّار العمدة .. فجأة يقتحم المجلس خفير يُشبه كثيرًا في سِحْنته أبوالمكارم،  تفيض الدماءُ على وجهه وملابسه.. في إعياء مَنْ أكملَ بعد معاناة سباقَ ماراثون مرير، وقبل أن يرتطم جسده المُنْهَك منذ عقود ببلاط الغرفة البارد، زفر كلمتين من شفتيه المتشققتين: إنهم قادمون !!

انتهى …

حازم شريف

حازم شريف

7:49 م, السبت, 19 أبريل 14