بقلم د.توفيق اكليمندوس *
فى المقالة السابقة حاولنا بيان صعوبة رسم سياسة خارجية عقلانية، وقلنا إن اشتراك الكثيرين فى صناعة القرار لا يضمن بالضرورة عقلانية هذا القرار. وللإنصاف نضيف هنا أن مشاركة الكثيرين قد تساهم فى طرح عدد أكبر من المعلومات على المائدة. ومن الواضح أن هذا لا يكفى لضمان قرار صحيح.
والحديث عن أهمية المعلومات يدفع إلى ذكر دور الإعلام. الإعلام والعالم الأكاديمى مصدران مهمان للمعلومات، ويفترض أن ممارستهما لهذا الدور أسهل فى أنظمة ديمقراطية، ونعلم أن قدرا معتبرا من القوة الناعمة الأمريكية نابع من نفوذ إعلامها، أغلب نخب العالم تقرأ النيويورك تايمز وذى الواشنطن بوست وتقارير مراكز التفكير والبحث، ولكننى أزعم وأعتقد أن مستوى أداء تلك المؤسسات تراجع تراجعا كبيرا يعود أساسا إلى أدلجة الخطاب وإلى سيادة اعتبارات الربحية والتمويل وإلى العجز عن تحديد القضايا المهمة فى هذا المجتمع أو ذاك، والعجز عن التفضيل بين المصادر.. ويلعب عامل الوقت دورا مهماً وسلبيا فى المشكلة.
ونشير أيضا إلى عدم صواب المقولة التى تفترض أن النظام الديمقراطى يولد بالضرورة مجتمعا ومؤسسات لا يخشى فيها أحد طرح رأيه. نعلم أن الرأى العام فى الدول الديمقراطية يفرض نوعا من الرقابة الساكتة على ما يقال، ويعاقب المخالف بالمقاطعة والتهميش، وكثيرا ما سمعت دبلوماسيين غربيين يشتكون من غياب الحوار داخل مؤسساتهم. أقصد أن القائد عليه مسئولية تنشيط الحوار وتشجيعه فى مؤسسات صنع القرار، وأن هناك قادة تشجعه رغم الطبيعة السلطوية والاستبدادية لأنظمتهم وهناك من يرفضه حتى فى الأنظمة الديمقراطية.
من ناحية أخرى تقتضى عملية تقييم عقلانية القرار الإشارة إلى دور الرأى العام. يقول علماء غربيون إن الرأى العام يلعب دورا مهماً لعقلنة القرار السيادى، وأن هذا الدور أقوى وأهم فى الديمقراطيات، ويستند هذا الرأى إلى حجة تبدو وجيهة، وهى أن الرأى العام هو الذى يدفع الفاتورة، فيضغط بقوة لمنع المغامرات والحروب، وفى الديمقراطية قدرته على المحاسبة أقوى بكثير.
وفى الواقع هذا الرأى صحيح فى أحوال كثيرة ولكنه ليس صحيحا على إطلاقه، هناك رأى عام عاقل، ورأى عام غير عاقل، ورأى عام متغير متقلب يتحمس مثلا لحرب ثم يرفضها بعد أن يموت ناس، وهناك قيادة رشيدة، وأخرى متهورة، هناك رأى عام مسن له صفات وعيوب الشيخوخة، ورأى عام شاب له ما للشباب وعليه ما على الشباب، وهناك رأى عام يتقبل التضحية وآخر يرفضها، ورأى عام متوجس من التكلفة مهما كانت ضرورتها، ورأى عام يتقبلها بيسر مفرط…
هناك رأى عام يميل إلى الثقة فى قيادته، عاقلة كانت أم لا ورأى عام يتشكك دائما فيها مهما تبدل القادة. وهناك قادة سلطويون يعملون ألف حساب لرأيهم العام وهناك قادة فى دول ديمقراطية لا يعيرون رأيهم العام اهتماما، مراهنين على نجاح سياستهم المرفوضة شعبيا، ومن على تغير الرأى العام قبل الاستحقاق الانتخابى… أو يرون أن واجبهم الوطنى يقتضى اتخاذ قرار يرونه سليما رغم تكلفته الانتخابية.
ونشير أيضا فى إطار الحديث عن عقلانية القرارات، إلى دور جماعات الضغط، التى تسعى إلى تغليب مصالح فئة ما أو على الأقل إلى التأثير على القرارات التى تخص جمهورها، وهذا الدور يثير قضايا عدة، هل هذا الدور علنى أم لا، هل هذا الدور يسهم فى ترشيد القرار (بتقديم معلومات غابت عن صاحب القرار) أم يؤثر عليه سلباً… من الواضح أن الرد سيختلف من حالة لأخرى..وأن تلك الجماعات موجودة فى النظام الديمقراطى وفى غيره…
وأختم بسؤال أتناوله لاحقا هل دور العواطف والمشاعر دائما سلبى؟
- أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية