ثلاث نقاط تسود الحوارات اللا منتهية فى بريطانيا حول بريكسيت (الخروج من الإتحاد الأوروبى). لكن تلك النقاط هى الطافى على السطح. فى العمق تكمن المعضلة الحقيقية.
لنبدأ بالنقاط الثلاثة على سطح النقاش. الأولى هى بقاء بريطانيا أو عدمه فى السوق الأوروپى المشترك. البقاء يُتيح لبريطانيا إستمرارية التجارة الحرة مع الإتحاد، لكن فى المقابل يحد من حريتها فى صياغة إتفاقات تجارة مع دول ومجموعات إقتصادية أخرى. النقطة الثانية تتعلق بانعكاسات الخروج على الحدود بين شمال إيرلندا (وهى جزء من المملكة المتحدة – الهيكل السياسى الأكبر لبريطانيا) وجنوب إيرلندا (أو الجمهورية الإيرلندية، وهى عضو فى الإتحاد الأوروبي). تلك نقطة مهمة، ليس فقط لأنها تتعلق بالحدود بين دولتين، ولكن أيضاً لأن تلاشى الحدود بين الإيرلندتين كان واحداً من أهم نتائج الإتفاق التاريخى فى 1997 لإيجاد حل للعلاقة بين شمال إيرلندا وبريطانيا (وهى علاقة معقدة مرت بالكثير من المتاعب وفترات عنف). النقطة الثالثة تتعلق بمن يملك حق إنهاء الفترة الإنتقالية التى (شبه مؤكد) ستعقب خروج بريطانيا من الإتحاد الأوروپى. الإتحاد يُصِر على حق مشترك، بينما كثيرون فى بريطانيا يرون أن ذلك يفتح إحتمالية سجنها فى مرحلة انتقالية مستمرة، فلا هى داخل ولا هى خارج الإتحاد.
هذه النقاط، بالرغم من أهميتها، وبالرغم من المخاطر الإقتصادية التى تحملها لبريطانيا، لا تلمس المشكلة الحقيقية الكامنة فى علاقة بريطانية بأوروبا.. مشكلة الهوية.
أى متابع لأوروبا يمكنه ملاحظة الإختلافات الكبيرة بين غرب وشرق القارة، وبين شمالها وجنوبها، من حيث العادات، الهياكل المُشَكْلة للمجتمعات، المرجعيات الدينية والسياسية، ناهيك عن القدرات الإقتصادية. لكن بالرغم من تلك الإختلافات، فإن النجاح الأكبر لأوروبا، فى السبعين عاماً منذ إنتهاء الحرب العالمية الثانية، كان فى جمع تلك المجتمعات (التى مرت بأشد درجات العداوة والعنف ضد بعضها الأخر) فى إطار واحد. هذا الإطار بدأ بدرجات من التكامل الإقتصادى. لكنه، بوضوح، كان ولا يزال، متجهاً نحو التداخل السياسى. والهدف هو الوصول الى الوحدة الأوروبية الكاملة.
بريطانيا، أبداً، لم تقبل ذلك الهدف…لا أن تكون جزءاً من الوحدة، لأنها ترى لنفسها هوية خاصة، مختلفة عن الهوية الأوروبية – ولا أن تتحقق تلك الوحدة أصلاً، وذلك درس إستراتيچى كامن فى عقل الكثير من المفكرين البريطانيين، والإنجليز بالذات.
ذلك يرجع لثلاثة أسباب:
الأول: أن بريطانيا، على الأقل منذ خمسمائة عام، منذ قطيعتها مع الكنيسة الكاثوليكية فى روما، وعلى مر القرون التى تعاقبت، كانت دائماً لاعب سياسى منفصل عن الإمبراطوريات الأوروبية التى تعاقبت فى السيطرة على القارة. بل أن بريطانيا، فى أغلب الأحيان، كانت اللاعب الفاصل قى الصراعات التى شكلت تاريخ أوروبا – سواءاً فى إسقاط مشروع نابليون، أو تحجيم پروسيا (وهى تاريخياً الفاعل الأهم فى ألمانيا)، أو فى تقسيم دولة الهاپسبورج النمساوية (فى نهاية الحرب العالمية الأولى). هذا الدور المنفصل – والعدائى احيانا – شكَل فِكْر بريطانيا الإستراتيچى، كدولة ذات مصالح وتجربة مختلفتين عن مصالح وتجارب الدول الأوروبية الكبرى فى القارة.
السبب الثانى، ثقافى. إن إنفصال بريطانيا الجغرافى (كجزيرة) عن أوروبا جعل تفاعلها مع التيارات الثقافية الرئيسية فى القارة محدود. لا شك، أن قمة المجتمع البريطانى (سواءاً فى إنجلترا أو اسكوتلندا)، كانت دائماً على إتصال كبير مع أوروبا، وبالذات مع الأرستقراطيات الرئيسية هناك. لكن بعيداً عن الطبقات العليا، وعن صالونات الفكر والثقافة فى أحياء لندن الراقية، بقيت بريطانيا – وبالذات إنجلترا – بعيدة ثقافياً عما يحدث فى القارة.
السبب الثالث هو قدر عالى من الثقة الإنجليزية بالذات، والتى يقابلها ويدعمها عدم ثقة فى التجمعات ذات الهوية غير الأنجلوساكسونية. وفى أعماق السيكولوچية الإنجليزية، هناك شعور بأن إنجلترا، بغض النظر عن قدراتها الإقتصادية (و هى تبدو أقل كثيراً مقارنة بتلك للإتحاد الأوروبى بكامل أعضائه)، قادرة على إجتياز أى مصاعب، ما دامت تملك حرية قرارها. بينما (أيضاً فى هذه السيكولوچية) فإن فكرة وتطور وهدف الإتحاد الأوروپى، على أفضل الأحوال، هم قيود على تلك الحرية.
هذه الأسباب الثلاثة تفصل الهوية والرؤية الإنجليزية ومعها الهوية البريطانية، عن المشروع الأوروبى.
بالطبع هناك إنقسام كبير فى بريطانيا، وفى إنجلترا نفسها، حول بريكست. لكن الجزء الأهم من معارضة الخروج قائم على أسباب إقتصادية، ولا يلمس التعارض فى الهوية والمسيرة التاريخية والهدف المستقبلى.
لذلك، بغض النظر عن تفاصيل خروج بريطانيا من الإتحاد الأوروپى، وحتى وإن تأجل هذا الإنفصال، فإن بريطانيا، وفى قلبها إنجلترا، ستبقى بعيدة عقلاً وفعلاً عن أوروبا.
- كاتب مصرى مقيم فى لندن