بقرية صغيرة بمحافظة كفر الشيخ فى مصر، قبل نحو ستة عقود، كان القدر يرسم مستقبلا غير معهود؛ لطفلٍ اسمه «أحمد الشهاوي»، كان له نصيبا من لقبه، فاشتهى بعد رحلة قراءته لكتب مترجمة بصغره أحد أرقى جامعات أوروبا، فهاجر مغامرا إليها بعد ظروف مريرة، وذاق أعلى الدرجات والجوائز التى أمّنت مستقبله.
وفى قمة مجده المهني ككبير مهندسين فى تصميمات الماكينات يجنى براءات اختراع ومناصب مرموقة بأوروبا، تحول «الشهاوي» فى 1994م لطير مهاجر؛ أراد حياة إضافية والبحث عن «الجنة المفقودة» بعد حياة أوروبية مرفهة، فطرق أبواب الترحال والغوص قى عالم مثير وغريب وخطير.
واستغربت أسرة «الشهاوي» لحظات إعلانه الأولى باعتبارها «جنونا»؛ لكنها ما لبثت أن ساندته خلال شهور وأيام البعد فى 87 دولة منها حوالي 23 ألف ساعة فى 22 غابة استوائية بالعالم، ودفعا معا خلالها «الثمن غاليا»، ابتعادا وجهدا واتصالات قليلة، كما أخبر «المال» فى حوار مطول عن بعد من مقر تواجده الحالي بالنمسا.
رحلة الصعود إلى «الجنة المفقودة»
وأنتج شغف الرحالة المصرى الأصل، بكاميرته آلاف الصور والمقاطع المتلفزة عن رحلاته، وكتابا وحيدا عنها خطه فى 444 صفحة و40 فصلا، وموقعا إلكترونيا يحمل اسمه وذكرياته، فى طريق «معرفة الطبيعة فى صورتها البكر التى وجدها بعد أكثر من 4 سنوات، ومعرفة الإنسان كما خلقه الله بصورته الأولى وعثر عليه بعد 16 عاما» كما يذكر لـ«المال».
فيما جاور اسم «الشهاوي» فى أحاديث الإعلام المحلي والدولي لقب «ابن بطوطة» الرحالة المغربي التاريخي، ولكن بنسخة مصرية تحنّ لمسقط رأسه بين الحين والآخر، دون أن تنسيه عقود الغربة الأوروبية رفع علم «مصر» والفخر بأهراماتها أو الدعاية لآثارها فى رحلاته.
«المال» تواصلت مع «ابن بطوطة المصري»؛ ومؤتمر المناخ الأممى لمّلم أوراقه بمصر نوفمبر الماضي؛ لاسترجاع لقاءاته مع الطبيعة والجغرافيا والبشر، وكيف عايشهم؟، وكان وقتها فى قرية «عين دراهم» التونسية، أمام صخور ربوة خصها الشاعر الراحل أبو القاسم الشابي، بجلساته، وحفرت بإحداها بيته الشهير: «ومن لا يحبّ صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر».
وكأنّ بيت الشاعر التونسي، الذى وقف «الشهاوي» يردده ببثٍ فى صفحته بفيسبوك آنذاك، يزيح الستار عن علاقة مشروعة بينه وبين الطبيعة، وسر اختيارها كـ«شريكة حياة جديدة» عرفها جيدا ذات مرة بدورته الكاملة حول الكرة الأرضية على مدى ثمانية أشهر، كما يرى.
ترك «الشهاوي» رابطة عنقه، ومناصب مرموقة وراتب خيالى آنذاك بالتسعينيات، وعرفته بزى بسيط قبائل «الفيداس» فى جزر المحيط الهندي، و«الباتاك» و«المانجيان» بجزر الفلبين، و«اليوروني» و«التاجاري» بالأكوادور، و«يانامامي» الممتدة بالغابات الاستوائية الممتدة بين فنزويلا والبرازيل، وأخرى يسكنها الأقزام فى الكونغو وإفريقيا الوسطى وغيرها تتبع «الهنود الحمر»، الذين يسكنون منطقة جراند سابانا بجنوب فنزويلا، وفى جميعهم يأكل أكلهم ويشرب شربهم وينام نومهم ولو على أرض تلتحف بالسماء أو فوق شجر يقيه لدغ وافتراس الأقدار.
ولا ينس «الشهاوي» الذى يعشق الترحال أيضا ببلاد عربية كالمغرب وتونس؛ لحظات صعود جبل آدم فى سريلانكا، وهو بعمر الأربعين مقتفيا أثر الأب الروحى ابن بطوطة المغربى قبل أكثر من 700 عاما، أو زيارة مقابر الموتى المدفونين بوضع الجلوس فى قباب فوق الأرض، فى بيرو، وخطواته بأكبر صحراء ملح والتى تقع ببوليفيا، أو النزول لإحدى المغارات تحت سطح الأرض على عمق 365 مترا، ومعايشته لأكبرالشلالات بالعالم المعروفة باسم «إجوازو» بين الأرجنتين والبرازيل، التى تضم 20 شلالا كبيرا و255 صغيرا عبر 2.7 كيلومتر.
تجاوز سنوات الخوف
وكعادة «الشهاوي» برحلاته يذاكر ما سيزوره مسبقا، وقد يصطحب أحيانا مرشدا من أحد قاطنيها، متجاوزا سنوات الخوف الأولى بعدما عاش حوالى 23 ألف ساعة بـ 22 غابة استوائية فى 87 دولة زارها خلال نحو ربع قرن، وفيها تسحره كما يقول أصوات الطيور والماء والنباتات والعيش فى الأكواخ البسيطة والنوم فوق الشجر متنقلا ما بين فيتنام وكمبوديا وبنجلاديش والفلبين والهند وسيرلانكا والصين ولاوس وماليزيا وإندونيسيا والبرازيل وباراجواى وبوليفيا وفنزويلا وبيرو والإكوادور.
ولم يهب «الشهاوي» وهو حاليا «رئيس الهيئة الدولية للرحالة والمغامرين المسجلة فى النمسا» صعود أغلب جبال العالم ومنها «الأنديز» فى بيرو، و«الألب» الأوروبية، و«آدم» فى سيرلانكا و«كليوباترا» فى الفلبين، أو «الجبال الزرقاء» فى سيدنى بقارة أستراليا، والتى ترك بقمتها صندوقا فيه رسالة ورقية منه بخط عربى تفيد بمروره يوم 3/3/2013، ونصيحته بالتجوال فى غاباتها،، فضلا عن إبحاره بأنهار عديدة منها: ريو (نهر بالإسبانية) «كاورا» الفنزويلي، أو «تجوينى» الإكوادورى المختبئ بين الغابات ولا ترصده الخرائط المطبوعة، أو وصوله لعشرات الجزر منها «روتي» الإندونيسية، و«كومى جين» الفلبينية.
«الشهاوي» الذى يرى أن «الرحالة بالضرورة يجب أن يكون مستكشفا وليس مسافرا فقط» تعرف على الأديان والتقاليد واللهجات وآمن بلغة الإشارة وهو يقترب من البشر كالهنود الحمر من ساكنى غابات فنزويلا، وإحدى حسناواتها التى كاد أن يتزوجها، و400 طفل واجه معهم الجوع بمساعدات إنسانية فى إفريقيا الوسطى التى تضم هى والكونغو أفراد قبيلة «البامينجا» الذين شاهدهم، وهم يسنون أسنانهم لتصبح مدببة حتى يتسنى لهم أكل اللحوم النية، وصولا إلى «بندلين» آخر رجل بدائى فى قبيلة «الباتاك».
ولم يفارق الرحالة المصرى الأصل، الذى كان وحيد عصره بترحال القرن العشرين، وجه «هويا» صاحبة فندق «ايتاوان24» فى كوريا الجنوبية التى احتفت بقميص يحمل اسمه على أحد جدران الفندق، ولم ينس تفاصيل «فرناسي» المدينة القديمة المقدسة لدى الهندوس فى الهند.
وكان «الشهاوي» الذى يسكن جبال الألب بالنمسا ويطالع الطبيعة الساحرة من قممها صباحا ومساءا «أول عربى يصل إلى قبائل الإينو الذين يعيشون كأقلية صغيرة بقرية «شيراوي» فى جزيرة «هوكايدو» فى أقصى شمال اليابان، وكذلك أول عربى يصل إلى منطقة النار الخالدة (مستعرة دائما) بجنوب تايوان» كما يقول لـ«المال».
حلم البدايات
تلك الرحلات التى عرفتها خطوات أقدامه، وارتاد خلالها كافة أنواع المواصلات بحقيبة بسيطة بها سكين وكاميرا تصوير، ومعه أمواله الخاصة، لم تنسه البدايات، وهو يفتح كتاب ذكرياته لـ«المال».
«ولدت بقرية صغيرة لا تكاد تكون موجودة على الخريطة، وتعرف باسم محلة القصب، ومن خلال أخى الكبير، الأستاذ محمد، ومكتبة تعج بتراجم أشبعتنى بثقافة عالمية وصنعت عندى الحلم»، يتحدث «الشهاوي».
«وأنا بمرحلة التعليم الإعدادى ظهر عندى حلم أن أدرس وأتخرج من جامعة أوروبية، وربما كان ذلك الحلم السبب بعد ذلك بدخول جامعة جراتس الهندسية بالنمسا، والتى كان من بين دراسيها العبقرى المخترع، نيكولا تسلا (1856 – 1943)، الذى قدّم العديد من الاختراعات أبرزها التيار المتردد المعروف بمنازلنا والتى بدونها كانت الكرة الأرضية لا ترواح عصرها الحجري»، يضيف «الشهاوي».
وأخبر «الشهاوي» والده بذلك الحلم فوجد ترحابا بمقولة شعبية مصرية دراجة نصها: «سأقوم بواجبي، وطوال ما أنت تدرس أنا أصرف»، وبالفعل عقد العزم على أول ترحال بدافع العلم ومجاراة العباقرة؛ لعله «يحافله الحظ ويضيف للعالم شيئا مثل تسلا»، كما يقول.
غرائب القدر والـ200 دولار
لكن «من غرائب القدر، أن والدى الذى كان يساندى توفى فى آخر يوم بامتحان بكالوريس كلية الهندسة جامعة المنوفية، فأحسست بفقد السند لكن تذكرت حلمى ووعدى لأبي، وعقب تخرجى فى أواخر السبعينيات من الكلية ذهبت لرحلتى الأولى»، يستطرد «الشهاوي».
ولم تكن رحلته الأولى نزهة، فبها كما يقول «كل الصعوبات، خاصة وأنا ذاهب لأوروبا وفى جيبى 200 دولار وفى هذا الوقت لا يكفون لأجرة غرفة».
وبالفعل «أنجزت دراستى بالجامعة فى 6 سنوات ونصف العام وبمعدل مذاكرة 12 ساعة يوميا فى صراع من أجل البقاء وأن أكون فى الصفوف الأولى وتخرجت عام 1991»، يضيف الرحالة «الشهاوي».
ونجح الحلم الذى ولد فى طفولة «الشهاوي»، كما كان يريد وذلك فى «مجال تصميم الماكينات وعمل بعدة شركات أوروبية، ووصل لمنصب كبير مهندسين واستطاع فى 1992 تقديم أول روبوت بمجال الهندسة الميكانيكيـة يعمل على دقة واحد من المئة من الملميتر، وحصد جائزة أحسن ابتكار هندسى فى غرب النمسا وقيمتها المادية تعادل فى هذا الوقت ربع جائزة نوبل».
لكن فى عام 1994 «تركت راتبي الضخم وبدأ أستشعر أننى أخذت كل شيء من الهندسة وأعطيتها كل ما عندي، وقررت أن أتمرد باحثا عن شريكة حياة جديدة وبدأت في اكتشاف الكرة الأرضية، من أقصاها لأقصاها» كما يقول «الشهاوي».
ويُعرّج «الشهاوي» على أسرته سريعا، ويقر أن زوجته وأولاده «تحملوا الكثير من المشاق» أثناء ترحاله على مدار العام.
اللقاء الأول مع الطبيعة
وكانت رحلة «الشهاوي» الأولى إلى غابات «سيش وانج بانا» الصينية، وعنها يقول: «عرفت هناك الخوف والرعب الذى كان يصطحبنى من نقطة لنقطة، ولكننى أصررت أن استكمل الحلم ورغم أننى تهت داخل الغابات استطعت بعد عدة أيام الخروج بعد معاناة».
«أشعلت فى فروع أشجار نيرانا حولي لتبتعد الحيوانات المفترسة، ونمت تحت السماء مباشرة تفاديا لسقوط ثعابين أو عناكب سامة، وتعلمت بعدها أنه لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا، فهرب الخوف مني»، يضيف «الشهاوي».
وعن رؤيته لغضب الطبيعة المتواصل بين براكين وسيول وحرائق، يجيب بثأثرٍ مدافعا عن شريكة حياته: «عاينت برحلاتى التلف المناخى وما فعله الإنسان من تدمير وتخريب وتلويث أنهار جعل بعضها ليس فيها سمكة واحدة»، مضيفا بحزم: «الطبيعة رد فعل، وترد على أفعالنا».
والتلف المناخى رآه «الشهاوي» فى أربعة مشاهد متكررة برحلاته نتاج «مخلفات المصانع والسيارات والتصحر وتآكل الشواطئ وقطع الشجر التى يحتاج عمر بعضها إلى عشرات السنوات لنراها شامخة، بينما تقطع من البشر والشركات فى دقائق معدودة».
رأى «الشهاوي» رئتى العالم فى غابات الأمازون، وأفريقيا الوسطى المهددة بسبب قطع الأشجار، وبدء تعافى الأولى من ذلك وتعثر الثانية قليلا فى وحل ما يرتكبه البشر ضد الطبيعة.
ولا يزال لدى «الشهاوي» حلم بمواجهة تهديد تآكل الشواطئ فى بلاده مصر عبر اللجوء للطرق الطبيعة بدلا عن نظيرتها الخرسانية وذلك بزراعة الأشجار التى تنمو فى المياه المالحة وتكثر الثروة السمكية وتحفظها التربة من التآكل ، معربا عن الاستعداد فى المشاركة فى إتمام ذلك.
تواصل له ثمن لكن لا توقفه حدود
وحبه للبشر ولتفاصيل لهجاتهم ومعتقداتهم وعاداتهم لا يقل عن حب الطبيعة أيضا، فهو يرى «ضرورة قبول الآخر كما هو وليس كما نريد نحن»، وعلى هذا التقى «بندلين آخر رجل بدائى فى قبيلة باتاك»، وزار أيضا معابد ودور عبادة العديد من الأديان غير السماوية.
وكانت اللغة لا تقف حاجزا عند «الشهاوي»، فرغم تعلمه عددا من اللغات، اكتسب أيضا فى رحلاته ألفاظا ولهجات نسى بعضهم بمرور الوقت، فيما بقيت «الإشارة أبرز لغات التواصل» كما يضيف لـ«المال».
وكان التواصل عنده لا يتوقف عند حدود، قائلا: «قمت بدورة كاملة حول الكرة الأرضية فى ثمانية أشهر، بداية من دبى إلى سنغافورة ثم الفلبين، ثم إندونيسيا وأستراليا ونيوزيلندا، ثم إلى النصف الخلفى للكرة الأرضية، فانتقلت من المحيط الهادى لبيرو ثم كولومبيا ونيوجرسى ثم باريس وأخيرا ألمانيا».
وهذا التواصل لم يخل من مخاطر جسيمة، كما يقول، فذات رحلة هاجمه لصوص بجنوب الصين، ولم تحمه إلا لعبة الكاراتيه التى تعلمها فى شبابه، وأخرى عندما سقط «الكوبرا» عليه وهو نائم فوق شجرة بماليزيا، ونجاه الله مع انشغال الثعبان بأكل سحالى بفمه، وثالثة عندما كاد يغرق فى شلالات سومطرة الإندونيسية، والناس تضغط على صدره لإخراج المياه قبل أن يعود التنفس له من جديد.
وكذلك أيضا أمواج فى جنوب أستراليا تسببت فى فقد النظر فى العين اليسرى قبل أن يجرى «عمليات معقدة أعادت 18 بالمئة من النظر بها، بخلاف إصابته بالملاريا وغيرهم وكان الله الحارس»، كما يضيف «الشهاوي».
وكانت تكاليف رحلاته وفق «الشهاوي» تحتاج «أموالا كثيرة دفعها من ماله الخاص، التى حصل عليها فى عمله»، كاشفا عن رفضه «عروض خاصة لتمويل رحلاته حتى يبقى محافظا على حريته».
أيقاظ فكرة الترحال بالقرن العشرين
وعن لقب «ابن بطوطة المصري»، يقول «الشهاوي»: «هذا لقب لم أطلبه لنفسي، ولكن أطلقه علىّ الإعلام بعد أن زرت قبر ابن بطوطة واقتفيت خطواته ورحلاته وسميت بخلاف المصري، ابن بطوطة العصري والعربى أيضا».
ويضيف: «فى وقت انطلاقى كانت كلمة رحالة كانت اختفت من أرض الواقع، واستطاعت إيقاظ فكرة الترحال فى العالم وكنت الوحيد المتفرغ فى القرن العشرين، وكنت ملهما لأغلب مهرجانات الرحالة ومشاركا فى أغلبها ونلت جوائز وشهادات تقدير عديدة».
ويتمسك «الشهاوي» وهو يلملم أوراق ذكرياته، باستمرار رحلاته ويحلم أن «يعبر سيبريا سيرا على الأقدام»، معتقدا أن «حياته كلها رحلة تنتهى بالموت، أو تمتد بعده عبر أتباعه وتلاميذه فى كل أنحاء العالم».
وقدم الرحالة المصرى الأصل، خلاصة تجاربه بالقول إن «الترحال ليس مهنة وليس وسيلة لكسب العيش، إنما هو أسلوب حياة تعطى أكثر من حياة ورؤية آلاف الصور بدلا من صور محدودة بين أربعة جدران».
ويختتم ذكرياته ببيت شعر عربى يقول: «سافر تجد عوضا عمن تفارقه وانصب فإن لذيذ العيش فى النصب، إنى رأيت وقوف الماء يفسده إِن ساح طاب وإن لم يجر لم يطب»، ويضيف: «والألمان لهم مثل يقول إن الذى يستريح يصدأ وأنا قررت ألا أصدّ».