عجيب أمر هؤلاء الشيوخ!
يقيمون الدنيا ويقعدونها ضد محاولات التدخل الأمريكية فى شئون الدول الإسلامية، ثم لا يتورعون أن يرتكبوا هم أنفسهم ما يدينون عليه الأخرين، فيقوموا بالتدخل السافر فى الشئون الفرنسية!
بل أكثر من ذلك فإنهم يكادون أن يخرجوا شيخ الأزهر الدكتور محمد سيد طنطاوى من الملة، ويصوبوا إليه سهام التكفير، لمجرد أنه قال عقب لقائه بوزير الداخلية الفرنسى، أنه إذا كانت المرأة المسلمة فى غير دولة الاسلام مثل فرنسا، وأراد المسئولون فيها، أن يقرروا قوانين تتعارض مع مسألة الحجاب فهذا حقهم، لا أستطيع أن أعارض فيه.
وكان شيخ الأهر، يملك أن يعارض، أو يتدخل أصلا فى الشئون الداخلية لدولة أخرى غير إسلامية!
والحكاية باختصار لمن لا يعرفها أن جاك شيراك رئيس فرنسا الدولة العلمانية ، دعا مؤخرا إلى سن تشريع يحظر على التلاميذ فى المدارس الحكومية، إرتداء الرموز الدينية ومن بينها الحجاب الاسلامى والصليب المسيحى والقلنسوة اليهودية، هذا مع ملاحظة أن دعوة شيراك، تقتصر على المدارس الرسمية، التى تمولها الحكرمة الفرنسية، ولا تشمل المدارس الخاصة الدينية ولا الأماكن العامة، ولا بالتأكيد أماكن ممارسة العبادات الدينية.
وعلى الفور بدأت جماعة الشيوخ حملتها، للتنديد بالتشريع الفرنسى المنتظر، واضعة إياه- فى اصطناع ديماجوجى مفتعل – فى خانة الحملة العالمية المناهضة للاسلام! وهو توصيف يفتقد للمنطق، ناهيك عن افتقاده للحد الادنى من المعرفة.
ففرنسا تحديدا، كانت ولاتزال الأقرب والأكثر تعاطفا – نسبيا وفى أغلب الأحوال – مع قضايا دول العالم الإسلامى ، وهو تعاطف غير مبنى على أسس رومانسية بطبيعة الحال، وإنما يرتكز بصفة رئيسية على قاعدة المصالح المتشابكة، ثم على ثقافة ليبرالية أكثر تسامحا تجاه الاخر، بالمقارنة مع ثقافات ليبرالية أخرى، تتغلغل فى روافدها، تيارات أصولية دينية كالولايات المتحدة الأمريكية على سبيل المثال.
وفرنسا تحديدا أيضا، ينظر إليها وتنظر هى لنفسها بصفة خاصة على أنها مهد قيم الحضارة العلمانية الحديثة، بما تتضمنه من فصل الدين عن الدولة وحظر ممارسة التمييز على أى أسس دينية أو عرقية أو جنسية، فحقوق المواطنة واحدة للجميع، أيا كانت ديانة المواطن أو عرقيته.
ومن ثم فأن إنتزاع دعوة شيراك عن هذا السياق، تمثل نوعا من سوء الفهم – إن لم يكن سوء النية – من شأنه إلقاء المزيد من الوقود على نيران معركة العداء للاسلام، التى لا نبرئ جماعة الشيوخ منها، والذين يعطون للغرب – والأخطر من ذلك لعامة المسلمين – صورة مخيفة عن الأسلام، وهم يقومون ليل نهار بمصادرة الكتب، وتكفير المثقفين والكتاب، ورفع دعاوى التفريق بين المفكرين وزوجاتهم، ومباركة الأرهاب الفكرى والجسدى.
ونحن هنا لا ندافع عن شيخ الأزهر، الذى يضطر فى بعض الأحيان – تحت ضغط موقعه الرسمى – للتغريد خارج السرب، مثل موقفه الأخير من دعوة شيراك، وبعض المواقف الأخرى، كفتواه المتعلقة بإباحة التعامل مع البنوك التجارية – أو الربوية بلغة أهل التحريم ،- إلا أن ذلك لا يمنعه فى أغلب الأحيان من مسايرة زملائه فى مصادرة العشرات من الأعمال الإبداعية.
ولعل أخطر ؤغرب ما قرأته فى إطار الحملة الأخيرة المزدوجة على طنطاوى وشيراك فى آن واحد، هو تصريح نقلته صحيفة الحياة اللندنية فى عددها الخميس الماضى على لسان الدكتور عبد العظيم المطعنى الأستاذ بجامعة الأزهر، يقول فيه بعد أن وصف موقف طنطاوى بأنه «لا يمت للاسلام بصلة»، إن من يبيحون لفرنسا إلغاء الحجاب الواجب الاتباع بالكتاب والسنة والأجماع، إنما يسهم معهم، فى انتصار الكفر على الاسلام، سواء كان عن جهل أو عن علم.
أما خطورته فمنبعها أنه يفتح الباب على مصراعيه، لتكفير شخص الأزهر شخصيا، بمنطق التضاد، كون موقفه لا يمت للاسلام، أو على أقر تقدير يضعه فى خانة أهل النفاق!
أما وجه الغرابة فكون القول السابق، يكشف عن تصور فى ذهن صاحبه – يكاد يقارب حد الهلاوس- بأن بإمكان شيخ الأزهر أو غيره من الشيوخ، أن يبيح أو لا يبيح إلغاء الحجاب لفرنسا الدولة العلمانية، التى تسكنها أغلبية غير مسلمة، ولا تمثل تعاليم الاسلام لمشرعيها أى مرجعية دستورية أو قانونية، وهو تصور يمكن أن يكون منطقيا فى حالة وحيدة، يسرح فيها الخيال إلى أقصى مدى، ليضع عمامة على رأس الخليفة سيف الآسلام شيراك، الذى ينتظر مباركة قرارته من رئيس مؤسسته الدينية الرسمية مسيو الشيخ طنطاوى!
وفى النهاية فقد يوافق المجلس التشريعى الفرنسى أو لا يوافق على سن القانون الذى دعا اليه شيراك بعد مناقشات مستفيضة، يتوقع أن تدور حول مدى انتهاكه للحريات الشخصية للمواطنين من جهة، ومدى توافقه مع مبدأ عدم التمييز بين المواطنين وحفاظه على هوية الدولة العلمانية من جهة أخرى، أما نحن فيبدو أنه قد كتب علينا لأمد غير منظور، أن نقبع تحت رحمة تكفير جماعات التكفير لنا ولبعضهم البعض .
حازم شريف
10:10 ص, الأحد, 4 يناير 04
حازم شريف
10:10 ص, الأحد, 4 يناير 04
End of current post