فشلت البنوك المركزية حول العالم فى القيام بدورها الرئيسى المتمثل بتوقع التضخم والتصرف بسرعة وجرأة لكبح جماحه مبكرا، الأمر الذى نال من مصداقيتها وعرضها لانتقادات حادة وصلت إلى حد إعادة التفكير فى صلاحياتها وحجم الاستقلال الممنوح لها.
قبل عامين، كان محافظو البنوك المركزية العالمية، محل إشادة بعد أن شاركوا فى تجنيب دولهم الكساد الناجم عن الوباء من خلال اتخاذ إجراءات سريعة، لكنهم ما لبثوا أن تعثروا فى محاولات إخماد التضخم المشتعل الذى لم يتوقعه أحدهم أو يتمكن من إحباطه.
تعد إدارة التضخم أمرا جوهريا فى مهمة البنوك المركزية، والسيطرة عليه هى «ورقة الاعتماد الرئيسية» لمصداقيتهم، ومفتاح الحفاظ على النمو الاقتصادى، بينما الفشل فى مواجهته قد تنذر بثمن باهظ يتمثل فى الركود أو حتى الركود التضخمى.
يقول النقاد إن البنوك المركزية نفسها هى المسؤولة عن التضخم، إذ ماطلت كثيرا فى تجميد سياساتها التحفيزية، وأخفقت فى فهم بنية التضخم الذى بدأت أدلة وجوده فى الظهور منذ عام 2020، وجادلوا بأن التضخم «مؤقت» وسيزول بزوال أسبابه التى حصروها فى اضطرابات سلاسل الإمداد وإغلاقات الجائحة.. أصبحت هذه التحليلات مصدر حرج لهم الآن.
وصل التشكيك فى قدرات البنوك المركزية إلى حد مراجعة فترة الـ30 عاما الماضية، حيث كان صناع السياسات النقدية هم الفاعلون المهيمنون على السياسة الاقتصادية، وسيطروا على التضخم عند مستويات منخفضة باستخدام أدوات الفائدة والتيسير الكمى بما يبرهن على مهاراتهم فى وضع السياسات.
تذهب الشكوك الآن إلى أن هؤلاء المصرفيين ربما كانوا «محظوظين فقط»، ويجادلون بأن انخفاض التضخم كان مدفوعًا بدخول الصين إلى الاقتصاد العالمى وإغراق العالم بسلع منخفضة التكلفة، فضلا عن الدور الذى لعبته التكنولوجيا فى خفض التكاليف.
على أى حال، يقول توم أورليك كبير الاقتصاديين فى «بلومبرج إيكونوميكس» إن صناع السياسة النقدية سيُسيطِرن على الأسعار فى نهاية المطاف، لكن ذلك لن يحدث فى وقت قريب بما يكفى لإنقاذ الأُسر من ضربة كبيرة لميزانياتها أو البنوك المركزية من ضربة كبيرة لمصداقيتها.
ضريبة ثقيلة للمراوغة وإخفاء التوقعات
كيف تتصرف الأسواق عندما تفقد الثقة فى صناع السياسة النقدية
يثق المستثمرون عادة فى قدرة البنوك المركزية على إنقاذ الاقتصاد خلال أوقات الشدة، بل أنهم معتادون على أن تجد السياسة النقدية سبيلا لإنقاذهم من الأزمات.
لكن هؤلاء المستثمرين أنفسهم يصبحون عائقا ضخما أمام تحقيق أهداف البنوك المركزية إذا ما شعروا بخلل ما فى توقعات محافظى البنوك أو فى قدرتهم على معالجة الأزمة، وفقا لتحليل نشرته صحيفة «فاينانشيال تايمز».
فعلى سبيل المثال، إذا اعتقدت الشركات أن البنوك المركزية يمكنها السيطرة على التضخم، سوف تتجنب تمرير التكاليف المرتفعة فى شكل أسعار أعلى للمستهلكين.
كذلك، إذا اعتقد العمال أن البنوك المركزية يمكنها السيطرة على التضخم، فلن يطالبوا بأجور أعلى كتعويض عن ارتفاع الأسعار.
لكن إذا فُقدت الثقة فى البنوك المركزية، فسيتصرف الجميع بطرق تؤجج من الأزمة، وستكون عملية خفض التضخم أكثر تكلفة من حيث تفاقم تراجع الإنتاج وارتفاع البطالة.
ولفت الاقتصادى ورئيس كلية كوينز فى كامبريدج محمد العريان فى مقال بـ«بلومبرج» إلى الأمانة التحليلية التى يتمتع بها بنك إنجلترا فى نشراته المتعلقة برؤيته للأوضاع.
فى نشرته الأخيرة خلال أغسطس الجارى، حذر بنك إنجلترا من أن التضخم سيبلغ ذروته فوق %13 فى أكتوبر القادم، ومن غير المرجح أن يعود إلى مستوى %2 المستهدف قبل عام 2025.
كما حذر البنك من احتمالات حدوث ركود سيبدأ خلال الربع الرابع من 2022، الأمر سيؤثر على النمو وسيتبعه انخفاض مؤلم فى دخول الكثير من الأسر.
ولفت العريان إلى أن حرص «بنك إنجلترا» على تقديم هذا التوجيه التحليلى الصادق والمنطقى، جنبه مصير «الاحتياطى الفيدرالى» الذى وصفت رسائله بأنها «مثيرة للضحك» و«لا يمكن تبريرها من الناحية التحليلية».
وقال إن نشرات بنك إنجلترا لا تعرف المراوغة ومباشرة وجديرة بالثقة ومحفزة للنقاشات الجادة والتقييم.
وأضاف: «تقوم المؤسسة المالية فى إنجلترا بتذكير العالم بما يمكن لمؤسسة مالية مركزية غير متحيزة سياسيا أن تفعله: العمل «كمستشار موثوق به» حريص على مشاركة وجهات نظر جديرة بالثقة من الناحية التحليلية».
ومع ذلك، يقول العريان إن هذه الاستراتيجية من بنك إنجلترا «ليست خالية من المخاطر»، لأن مثل هذا الصدق يمكن أن يؤثر على سلوكيات المستهلكين والشركات بما قد يسرع الوصول إلى نتائج غير صحية.
لكن هذا لا يمنع أن الثقة فى المؤسسات المالية مهمة أيضا لنجاح مجموعة واسعة من سياسات البنوك المركزية، وفقا لما توصلت إليه دراسة بعنوان «الرأى العام حول البنوك المركزية عندما تكون السياسة الاقتصادية فى حالة من عدم اليقين»، نشرها موقع «Cairn.info» المهتم بالمواد العلمية فى العلوم الإنسانية والاجتماعية.
وتشير الدراسة إلى أن الرأى العام يؤثر على السلوك الاقتصادى وتكوين التوقعات، وعندما تكون المواقف العامة إيجابية فإن ثقة المستثمرين والمستهلكين تلعب دورًا أساسيًا فى دعم السياسات.
والدراسة التى استهدفت المواقف العامة تجاه البنك المركزى الأوروبى، وبنك إنجلترا، وبنك اليابان تظهر أن صدمة «حالة عدم اليقين» فى السياسة الاقتصادية، تؤدى إلى تدهور حاد فى ثقة الجمهور بالسلطات النقدية، وتستغرق وقتًا طويلاً للتعافى.
وقالت إن تدهور ثقة الجمهور يجب أن تكون مصدر قلق لصانعى السياسات، حيث إن الافتقار إلى الثقة يعيق رغبة المواطنين والشركات فى الاستجابة للسياسات والمساهمة فى دعمها.
وبالتالى فإن مصداقية البنك المركزى وسمعته مهمان لفعالية السياسة النقدية، وهى ثقة قد تتزايد بمرور الوقت مع تحسن أداء البنك المركزى أو تتضاءل لعدة أسباب، مثل الأزمات المالية أو أزمة الثقة الخطيرة فى المحافظ، أو الصراع السياسى بين السلطة النقدية والحكومة.
يشار إلى أن البنك المركزى الأوروبى وبنك إنجلترا وبنك اليابان، لديهم أدوات (استطلاعات أو مسوح) تمكنهم من قياس ثقة المواطنين ومدى رضاهم عن الطريقة التى يقوم بها البنك بعمله للحفاظ على استقرار الأسعار.
رغم المخاوف من تلاعب الساسة بالمصرفيين
تفكيك الاستقلال وفرض المساءلة.. جدل متجدد مع إخفاق «حكام المال»
أخفق محافظو البنوك المركزية فى مواجهة التضخم حتى وصل إلى مستويات غير مسبوقة منذ عقود، وهم بالتالى غير جديرين بالصلاحيات الضخمة التى يحوزونها.
بهذه الشراسة، تزداد حدة الهجوم على المصرفيين – من اليسار واليمين – بشكل يدعو إلى توقع تغيرات وشيكة فى حوكمة البنوك المركزية مستقبلا.
وحسب «رويترز»، فإن الانتقادات الحادة وصلت حد إعلان بعض الخصوم أن الوقت قد حان لإعادة التفكير فى البنوك المركزية وإصلاحها وفرض المزيد من السيطرة السياسية عليها، حيث يمكن على الأقل محاسبتها بشكل ديمقراطى.
ورغم أن استقلالية البنوك المركزية تعتبر أمرا جديدا نسبيا، لكن الفكرة التى اكتسبت زخما فى سبعينيات القرن الماضى تحمل فى طياتها عاملا قيما ومحققا للاستقرار بالنسبة للبلدان التى تسعى لتحرير قرارات السياسة النقدية من التأثير السياسى، وفقا لصندوق النقد الدولى.
ومع ذلك، يشير الصندوق إلى أن البنوك المركزية لا تعمل فى فراغ ولا ينبغى لها أن تفعل ذلك، فهى كمؤسسات عامة، ينبغى أن تكون موضع مساءلة ملائمة من المُشَرِّعين ومن المجتمع.
وتابع: «من أمثلة الشفافية الملائمة نشر محاضر الاجتماعات، وسرعة الاستجابة لاستفسارات المُشَرِّعين، ونشر تقارير فنية مفصلة، وعقد اجتماعات مع وزراء المالية، وتنظيم مؤتمرات صحفية».
نيكسون وبيرنز.. نكسة دعمت فكرة «الاستقلال»
فى عام 1971 بينما كانت حرب فيتنام المكلفة لا تزال مشتعلة، قرر الرئيس الأمريكى ريتشارد نيكسون إنهاء نظام بريتون وودز (لتحويل الدولار إلى ذهب) والذى ربطت معظم الدول الغربية بموجبه عملتها بالدولار، بحيث يمكن تحويله إلى ذهب بمعدل 35 دولارًا للأوقية.
كان نيكسون يريد خفض التضخم الذى يتصاعد منذ عهد سابقه، لذا قرن هذا القرار بالإعلان عن تجميد الأجور والأسعار، وقد تم كبح جماح الأسعار بالفعل لفترة قصيرة، قبل أن يتسبب إلغاء هذا التجميد لاحقًا فى حدوث تضخم أسوأ بكثير.
لكن نيكسون ضغط على آرثر بيرنز رئيس مجلس الاحتياطى الفيدرالى فى تلك الفترة، لتبنى سياسات نقدية توسعية فى الفترة التى سبقت انتخابات عام 1972.
فى عام 1973 ، وصلت الأمور إلى أبعاد أزمة مع إعلان منظمة (أوبك) الحظر النفطى على الغرب، كعقاب على دعم الولايات المتحدة ودول أخرى لإسرائيل.
عندما تضاعفت أسعار النفط أربع مرات، جادل بيرنز بأنه نظرًا لأن هذا لا علاقة له بالسياسة النقدية، ينبغى على الاحتياطى الفيدرالى استبعاد النفط والمنتجات ذات الصلة بالطاقة (كزيت التدفئة والكهرباء) من الرقم القياسى لأسعار المستهلك (كان وزنه %11) فى مؤشر أسعار المستهلكين.
ثم جاء ارتفاع أسعار المواد الغذائية، لكن بيرنز أرجعه إلى الطقس غير العادى، وأمر باستبعاد الطعام من المؤشر (كان وزنه %25).
كان هذا هو الإصدار الأول مما يُعرف الآن باعتزاز باسم «معدل التضخم الأساسى» والذى يُزعم أنه خالٍ من «العوامل الخاصة» المتقلبة للغذاء والطاقة.
كان بيرنز سعيدًا، وقال إن السياسة النقدية بحاجة إلى التركيز على اتجاهات التضخم الأساسية الأكثر استقرارًا ، قبل أن تسقط الولايات المتحدة فى تضخم رهيب.
ومنذ ذاك، أصبح الاستقلال السياسى عامل التأييد لمحافظى البنوك المركزية الغربية.
عندما رفعت أمريكا أسعار الفائدة إلى %20
شبح البطالة البائسة والركود العميق.. العالم يخشى «صدمة فولكر»
فى سبعينيات القرن الماضى، سمح رئيس بنك الاحتياطى الفيدرالى آرثر بيرنز بأن يرتفع التضخم فى الولايات المتحدة أكثر من اللازم ولفترة طويلة جدًا، مما قاد إلى حالة كلاسيكية من الركود التضخمى.
وفى 1979، بعد عام من تنحيه، ألقى بيرنز خطابًا بعنوان «عذاب البنوك المركزية»، مدعيًا أن المجتمع غير مستعد لقبول الألم الضرورى لخنق التضخم، الأمر الذى يجعل قيام مجلس الاحتياطى الفيدرالى بعمله «مستحيلا».
من بين أبرز الحضور للخطاب، جلس بول فولكر، الذى قضى لتوه أقل من شهرين فى منصبه كرئيس لمجلس الاحتياطى الفيدرالى.
بعد 6 أيام من خطاب «بيرنز»، كشف فولكر عن تحول جذرى فى السياسة أدى فى نهاية المطاف إلى رفع أسعار الفائدة القياسية لنحو %20.
أدت «صدمة فولكر» إلى ركود عميق فى البلاد، وألقت بالملايين فى غياهب البطالة، وفى المقابل حصدت الولايات المتحدة عقودا من النمو المطرد والتضخم المنخفض فى فترة يطلق عليها الاقتصاديون حاليا «الاعتدال العظيم».
وتبدأ هذه الفترة من منتصف الثمانينيات وحتى عام 2007 على الأقل، وتتميز بالحد من تقلبات الدورات الاقتصادية مقارنة بالعقود السابقة.
فى انتخابات الرئاسة الأمريكية لعام 1980، أطاح الناخبون بالرئيس جيمى كارتر – الذى عين فولكر – وانتخبوا بدلا منه رونالد ريجان، الذى أعاد التمديد لفولكر فى قيادة المركزى.
عندما ترك فولكر منصبه فى أغسطس 1987، كان التضخم قد انخفض إلى %3.4 من ذروته البالغة %9.8 فى عام 1981، ومنذ ذلك الحين، أصبح التضخم المنخفض هو القاعدة، كما لم يتجاوز مستوى %5 منذ سبتمبر 1983 حتى عام 2022.
فى عام 1990، ألقى فولكر كلمة وداعية بعنوان «انتصار البنوك المركزية؟».
الثمن الباهظ
بالنسبة إلى المعجبين به، كان فولكر أنجح رئيس لمجلس الاحتياطى الفيدرالى فى التاريخ، وصانع سياسة جريئة، تغلب على مشكلة التضخم حتى عندما كانت أفعاله لا تحظى بشعبية كبيرة.
ورغم أن مهندس تلك الصدمة، يتم الإشادة به اليوم لقيامه بالأمر الصعب على مستوى السياسة، إلا أن الأثمان كانت باهظة.
فى كتابه «الليبرالية الجديدة: موجز تاريخي» (صدر عام 2005)، لفت الأكاديمى الماركسى ديفيد هارفى إلى أن تلك الصدمة تضمنت تخلى الولايات المتحدة «الديمقراطية الليبرالية» عن التزامها بعيد الأمد بالتشغيل الكامل، وتبنت سياسة بديلة مصممة للقضاء على التضخم بأى ثمن.
وربط هارفى بين الصدمة وبين «التحول الحاسم» نحو قدر أكبر من التفاوت الاجتماعى، واستعادة الطبقة العليا للقوة الاقتصادية.
وأوضح: «بدأ الركود الاقتصادى الطويل والعميق الذى أفرغ المصانع وحطم سلطة النقابات».
كما أدت صدمة فولكر فى أوائل الثمانينيات إلى أزمة ديون طاحنة فى أمريكا اللاتينية، حيث اقترضت العديد من حكومات أمريكا اللاتينية من البنوك الأمريكية التى فرضت معدلات فائدة أعلى بكثير بعد زيادات فولكر، ما أدى إلى تضخم الديون، وفى عام 1982 تخلفت المكسيك عن سداد ديونها، وتبعها آخرون.
وتدخل صندوق النقد الدولى جزئيًا بناءً على طلب فولكر والاحتياطى الفيدرالى، للعب دور «مقرض الملاذ الأخير» لإنقاذ حكومات أمريكا اللاتينية مقابل وعود بتخفيض الإنفاق واعتماد إصلاح اقتصادى هيكلى.
استجابت العديد من الحكومات بخفض الإنفاق على الخدمات الصحية وغيرها من الخدمات الاجتماعية، وتفاقمت المحنة الاقتصادية لتلك الشعوب إلى حد وصل إلى «حصد الأرواح» نتيجة ضعف النظم الصحية، وفقا لموقع «فوكس».
شبح الصدمة
لا يزال التضخم فى الولايات المتحدة حاليا أقل بكثير من ذروته فى السبعينيات وأوائل الثمانينيات، إلا أنه أعلى مما كان عليه فى فترة طويلة جدًا.
وقد رفع المركزى الأمريكى بالفعل أسعار الفائدة 4 مرات على التوالى فى 2022 وبنسب مرتفعة.
ورغم تأكيد جيروم باول رئيس بنك الاحتياطى الفيدرالى الحالى بأنه «لا يحاول إحداث ركود الآن»، إلا أن هناك من يجادل بأن الألم الاقتصادى على غرار أسلوب فولكر قد يكون ضروريًا.
وقال لارى سمرز، وزير الخزانة السابق الذى كان قد اقترب من الترشح لرئاسة مجلس الاحتياطى الفيدرالى عام 2013: «نحتاج إلى 5 سنوات بنسبة بطالة أعلى من %5 لاحتواء التضخم.. بعبارة أخرى، نحتاج إلى عامين بنسبة بطالة %7.5 أو 5 سنوات ببطالة %6 أو سنة واحدة ببطالة %10».