أسفرت الاتجاهات الاجتماعية والاقتصادية طويلة الأجل وأنظمة الصحة العامة التي تعاني من نقص التمويل إلى عدم استعداد منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا للاستجابة لجائحة فيروس كورونا (كوفيد-19)، مما أسهم في تحقيق تعافٍ ضعيفٍ ومتفاوتٍ، في حين تسعى المنطقة جاهدة للخروج من الجائحة، وفق تقرير صادر عن البنك الدولي اليوم.
ويسرد العدد الأخير من تقارير أحدث المستجدات الاقتصادية التي يصدرها البنك الدولي عن المنطقة، الصادر بعنوان: “الإفراط في الثقة: كيف تركت الانقسامات في الاقتصاد والرعاية الصحية منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا غير مُهيأة لمواجهة جائحة كورونا”، بالتفصيل كيف تعرضت الأنظمة الصحية في المنطقة للإجهاد قبل تفشي الجائحة، حيث أدى ارتفاع فاتورة الأجور بالقطاع العام إلى مزاحمة الاستثمارات في الخدمات الاجتماعية مثل الرعاية الصحية، وهو ما يصفه التقرير بأنه “عدم التبصر في إدارة المالية العامة”.
و قال البنك الدولي إنه إجمالاً، ستبلغ التكلفة التراكمية المقدرة للجائحة من حيث خسائر إجمالي الناتج المحلي في المنطقة بنهاية هذا العام حوالي 200 مليار دولار. ويتم حساب هذه التكلفة عن طريق المقارنة بين إجمالي الناتج المحلي الفعلي للمنطقة وبين ما كان يمكن أن يكون عليه لو لم تكن الجائحة قد تفشت في بلدانها. ويشير التقرير إلى أن إجمالي الناتج المحلي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا انكمش بنسبة 3.8% عام 2020 ويتوقع أن ينمو بنسبة 2.8% عام 2021.
أثر الجائحة على النشاط الاقتصادي للمنطقة
وتعليقاً على هذا التقرير، قال فريد بلحاج، نائب رئيس البنك الدولي لشؤون منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا: “إن الأثر المدمر للجائحة على النشاط الاقتصادي في المنطقة هو تذكرة مؤلمة بأن التنمية الاقتصادية والصحة العامة مرتبطتان ارتباطاً لا ينفصم. ومن الحقائق المحزنة أيضاً أن الأنظمة الصحية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، التي كانت تعتبر متطورة نسبياً، قد تصدعت في ظل هذه الأزمة. وفي المرحلة المقبلة، يجب أن ينصب التركيز بقوة على بناء مهام الصحة العامة الأساسية والاستفادة من قوة البيانات الصحية وأنظمة الصحة الوقائية لتسريع وتيرة التعافي في المنطقة والاستعداد لمواجهة طوارئ الصحة العامة التي قد تنشأ في المستقبل بسبب الجوائح والكوارث المتصلة بالمناخ وحتى الصراعات الاجتماعية.”
انتعاش متفاوت
ومن حيث نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي، وهو مقياس لمستويات المعيشة، يتوقع التقرير انتعاشاً طفيفاً ومتفاوتاً في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا عام 2021. فمن المتوقع ألا يرتفع نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي الحقيقي في المنطقة إلا بنسبة 1.1% عام 2021 بعدما تراجع بنسبة تُقدر بنحو 5.4% عام 2020. وبحلول نهاية عام 2021، سيظل نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي في المنطقة دون مستوى عام 2019 بنسبة 4.3%. وستنخفض مستويات المعيشة في 13 من أصل 16 بلداً من بلدان المنطقة في عام 2021 عن مستوياتها قبل تفشي فيروس كورونا. وبالنسبة لكل بلدٍ على حدة، فإن معدل نمو نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي في عام 2021 متفاوت، إذ يتراوح من -9.8% في لبنان الذي يمر بمرحلة كساد عميق إلى 4% في المغرب. وسيتوقف هذا الانتعاش أيضاً على النشر السريع والمنصف للقاحات؛ ولا سيما مع ظهور سلالات جديدة من الفيروس. وثمة مخاطر إضافية على النمو بسبب عدم اليقين السياسي في بعض البلدان ومدى سرعة انتعاش قطاع السياحة في بلدان أخرى.
وفي هذا الصدد، قالت روبرتا جاتي، رئيسة الخبراء الاقتصاديين بمكتب منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بالبنك الدولي: “لقد أظهرت السنتان الماضيتان أن مكافحة جائحة كورونا أمر ضروري، ليس لإنقاذ الأرواح فحسب، بل أيضاً لتسريع وتيرة التعافي الاقتصادي الذي أصبح الآن ضعيفاً ومتفاوتاً في مختلف بلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. والأنظمة الصحية المجهدة وحملات التلقيح المتأخرة في العديد من بلدانها ذات الدخل المتوسط والمنخفض تنذر بمخاطر انحدار هذا التعافي.”
وبحسب التقرير ؛ كانت منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من مناطق العالم النامي التي زاد فيها الإنفاق الحكومي كنسبة من إجمالي الناتج المحلي خلال العقد السابق على الجائحة، حيث ارتفع من 16% إلى 18% بين عامي 2009 و2019. وأدى هذا الإرث من القطاع العام الضخم وارتفاع الدين العام إلى مزاحمة الاستثمارات في الصحة العامة، وهو ما نقل بدوره بعض التكاليف الصحية إلى الأفراد؛ الأمر الذي يتضح من ارتفاع الإنفاق الشخصي على الرعاية الطبية على نحو غير متناسب. ومن الأعراض الأخرى لإجهاد أنظمة الصحة العامة انخفاض نسبة الإنفاق على الصحة الوقائية، وكل ذلك أسهم في ارتفاع معدلات الأمراض السارية وغير السارية في المنطقة مقارنة بنظيراتها. علاوة على ذلك، خلق عدد السكان الشباب في المنطقة وهماً إحصائياً بأن السكان يتمتعون بصحة جيدة، وربما هو ما جعل الاستثمار في التأهب لمواجهة الطوارئ الصحية أقل إلحاحاً.
ويخلص التقرير إلى أن أنظمة الصحة العامة في المنطقة لم تكن غير مهيأة لاستيعاب صدمة الجائحة فحسب، بل كانت السلطات في السابق ترسم صورة مفرطة في التفاؤل في التقييمات الذاتية لمدى استعداد أنظمتها الصحية. وهذا ما يسميه التقرير “الإفراط في الثقة“.
وربما أسهم عدم كفاية جمع البيانات واستخدامها إسهاماً كبيراً في هذا الإفراط في الثقة. ويرى التقرير أن تحسين شفافية البيانات من أجل الصحة العامة يمكن أن يساعد بلدان المنطقة ليس فقط على تلبية الاحتياجات الدائمة للرعاية الصحية، بل أيضاً على استعدادها لمواجهة الطوارئ الصحية في المستقبل. ويخلص التقرير إلى أن نقص الاستثمارات الحالية في أنظمة الصحة العامة يحتاج إلى معالجة عاجلة من خلال إعطاء الأولوية للاستثمارات في المهام الأساسية للصحة العامة ضمن موازنات القطاع العام.
استجابة مجموعة البنك الدولي لجائحة فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19)
ووفق التقرير ؛ منذ بدء جائحة فيروس كورونا، استثمرت مجموعة البنك الدولي أكثر من 157 مليار دولار لمكافحة الآثار الصحية والاقتصادية والاجتماعية للجائحة، وهي أسرع وأكبر استجابة لأي أزمة في تاريخها. ويساعد هذا التمويل أكثر من 100 بلدٍ على تدعيم التأهب لمواجهة الجائحة، وحماية الفقراء والوظائف، وإعطاء دفعة لتحقيق تعافٍ غير ضار بالمناخ. كما يساند البنك أكثر من 50 بلداً من البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل، أكثر من نصفها في أفريقيا، بشراء لقاحات كورونا ونشرها، ويتيح موارد تمويلية لهذا الغرض بقيمة 20 مليار دولار حتى نهاية عام 2022.