أحمد الله أنه قد أطال في عمري حتى أرى الحزب الوطني الديمقراطي، ابن حزب مصر، حفيد منبر الوسط، وسليل الاتحاد الاشتراكي، ينظم مظاهرة !، وكنت أحسب أن لحظة كهذه ستكون مهيبة، وأن رعشة ستهز أوصالي، بمجرد رؤيتي جموع أعضاء وكوادر الحزب يتظاهرون.
لحظة تحفر في الذاكرة، كجنازة عبدالناصر، وحرب أكتوبر، وزيارة السادات للقدس، وانتفاضة77، وحادث المنصة، وأحداث الأمن المركزى، وغزو العراق للكويت، ومؤتمر مدريد، و11 سبتمبر 2001.
الحزب الوطني، أو الحزب كما ينعته المنضمون إليه، ليس لا سمح الله لأنه تنظيم سياسي أيديولوجي ثوري صارم، يأبى المناضلون من أعضائه رؤية ما عداهم من قوى سياسية أو أحزاب أو عقائد أو أفكار، ولكن لأنهم لا يرون سواه وسيلة للتغيير، تغيير واقعهم هم بالنسبة للأغلبية من الأخوة المنافقين، وتغيير المجتمع -وتحديدا جانبه الاقتصادي- إلى الأفضل، بالنسبة لجماعة الأقلية من التكنوقراط حسني النية، الذين التحقوا بالحزب من أعلى على مدار السنوات الماضية.
تخيلت في أحلام اليقظة، أن أتجمد في مكاني، وأن لا أقوى على غلق عيناىي من فرط الاستثارة، وإذا بي مسترخيا مبتسما،تزداد ابتسامتي اتساعا، وأنا أراقب مشهد أنفار الحزب، يزايدون على حرب المظاهرات المندلعة في شوارع مصر خلال الأسابيع الماضية، ولم استطع أن أمنع نفسي من الضحك، وأنا أقرأ لافتة لمظاهرة الوطنى تقول: كفاية تبعية، شعب مصر ليس للبيع!، وذلك طبعاً بعد ترديد شعارات المبايعة والتأييد.
وإذا بي أسقط على الأرض من شدة الضحك، وأنا أتأمل خبرا منشورا في جريدة الأهرام يوم الجمعة الماضي، يقول إن الأمن قد رفض طلبا من الوطني، لتنظيم مظاهرة لتأييد تعديل المادة 76 من الدستور، لعدم ملاءمة الظروف، ولأن الأمر يتطلب تنظيم التظاهر لكافة الأحزاب!، آه والله!.
وأخشى أن يتمادى الأخوة في الحكومة والأمن والحزب في غيهم، للتأكيد على مناخ الديمقراطية الذي نعيش فيه، فيعلنون أنهم قد ألقوا القبض على 50 عضواً من الوطني، قاموا بالخروج فى مظاهرة غير شرعية لتأييد الإصلاح الدستورى المحدود، والهتاف ضد المعارضة العميلة المأجورة، إذ إنني أعلم مسبقا أن هذا المستوى من الابتذال، سيفوق قدرتي لا محالة، وقد أجن فأطلق لحيتي، وأضع نفسي داخل «بانيو» له أربع عجلات، أتخذه سكنا ومأوى لي، وأزينه بعصا «مقشة» تحمل علم أمريكا، صارخا بصورة هستيرية فى وجوه المارة والمتظاهرين أيضا!.
ويبدو لي أن الأخوة فى الحزب قد تجاوزتهم الأحداث، أو بعبارة أدق، لم يستوعبوا بعدما يجرى حولهم، فهم لا يزالون على اعتقاد أن بمقدورهم، اتباع نفس الميكانيزمات القديمة فى ظل معطيات بالغة الاختلاف، فنراهم يجمعون معهم «الأحزاب الرسمية» فيما يطلقون عليه الحوار الوطنى، وقد طال هذا الحوار وطال واستطال حتى «باخ»، وحتى أصبحت أسماء كنعمان جمعة ورفعت السعيد -ولن نقول الصبحاحي حتى لا نجاري أحدا في الابتذال-، مرادفة ومعادلة لكمال الشاذلي وصفوت الشريف ويوسف والي، وبات لا أحد في الداخل أو الخارج يهتم بهذا الحوار، اللهم سوى المتحاورين أنفسهم، هذا إذا كانوا بالفعل يتحاورون.
ولسوء الحظ -أو لحسنه حسبما ترى-، اكتشف الأخوة في الحزب «إذ فجأتن»، أن الشو الإعلامي الذى تقوم به قوى المعارضة -غير الرسمية- في الشارع، بالغ الصدى والتأثير في وسائل الإعلام ودوائر صنع القرار في الخارج، حتى صار الأخ الدكتور أيمن نور من وجهة نظر هذه الدوائر رمزا ليبراليا مستنيرا! ملاحظة: تمنعنى آداب المهنة والآداب العامة من اختيار ألفاظ شعبية مناسبة للاحتجاج على هذا التوصيف.
وحتى صارت حركة كفاية الأصل -وليس كفاية «التيوانى» التى قلدها الوطني- تعبر عن مطالب قوى اجتماعية حقيقية في التغيير،- وهو ما أدعى أنه حكم صحيح فى جزء منه-، لذلك لم يكن غريبا أن يهرول الإخوان المسلمين بدورهم إلى الشارع، منتقلين من حالة المهادنة من أجل البقاء، إلى وضع الباحث عن موطئ تحت الشمس في أى ترتيبات إصلاحية جديدة.
ومن هنا دفع الحزب بفلذات أكباده من كوادره للتظاهر، فما كان منهم إلا أن أيدوا وبايعوا -كما تعودوا-، ورفعوا لافتات تحمل شعارات تفتقر إلى الخيال وإلى الحس السياسي، تحاول الاستعارة والاقتباس من شعارات الآخرين، دون أن تعبر عن قضايا وهموم حقيقية، وربما حتى دون أن يعرفوا ما يقصده بها الآخرون عند رفعها، فبدا المشهد يدعو للسخرية بقدر ما يبعث على الأسى.
وعلى قيادات الحزب إلا تلوم إلا نفسها، فهي من اختارت هؤلاء، ودربتهم منذ الصغر على النفاق والمبايعة والتأييد والموافقة، ويكفي أن تتابع لقاءات مسئولي الحزب وكبار مسئولي الدولة بكوادر الحزب من البراعم الطلابية على مدار السنوات الماضية لتتأكد من هذا، شباب وفتيات فى عمر الزهور، ينتصب كل منهم في بلاهة واضحة، ليلقي قصيدة رياء -نثرية أو شعرية-، تمتدح المسئول وتكاد تضعه في مصاف الأنبياء، ثم يلقي -أوتلقي- بنعومة، تصل إلى درجة «التحسيس» بسؤال -تم تلقينه له عن ظهر قلب-،عن الأوضاع السياسية في المنطقة على سبيل المثال، ليدلي المسئول بالتصريح المطلوب.
مرة أخرى الميكانيزمات القديمة لن تصلح للتعامل مع المتغيرات الحالية، وهي مجرد نصيحة قد تقبلها أو ترفضها قيادات الوطني، ولكني أرجوهم، وأتوسل إليهم، وعلى أتم استعداد أن أركع، بل وأن آخر ساجدا تحت اقدامهم: لاتتظاهروا،لاتتظاهروا،لاتتظاهروا،ليس لأن ذلك يزيد صورتكم سوءاً فى الخارج،فهذا شأنكم، ولكن لأنني لا أرغب في أن أقضى ما تبقى لي من العمر متحصنا فى البانيو أبو عجل!.