فى إطار متابعتى للانتخابات الفرنسية تحدثت مع صديقى الصدوق أستاذ الفلسفة المرموق٬ ووجدته ثائرًا غاضبًا ضد الإعلام الأمريكى، ولا سيما المائل إلى اليسار٬ غاضبًا من تغطية هذا الإعلام للأوضاع فى فرنسا وانتخاباتها٬ وقال فيما قال… ما يقولونه يلخص كالآتي: فرنسا مخيَّرة بين مرشحة فاشية ورئيس فاشي٬ ولو انتخب الشعب رئيسًا فاشيًّا فهو فاشي.
كان فى ثورة شديدة٬ ثم هدأ وبدأ يحلل، مصدر أخبارهم هم الحركيون اليساريون الذين يقولون إن فرنسا دولة عنصرية بامتياز٬ والذين ينددون باستمرار بعنف الشرطة الفرنسية. لا أقول إن فرنسا دولة مثالية٬ ولكن شرطتها ليست الشرطة الأمريكية٬ لا تطلق النار على المواطنين إلا فيما ندر٬ رغم كثرة اعتداء المواطنين عليها٬ الإحصاءات واضحة٬ أعداد من ماتوا نتيجة عنف الشرطة، وأعداد أعضاء الشرطة الذين قُتلوا فى حوادث اعتداء عليهم… كل هذا يثبت أن الوضع مختلف تمام الاختلاف عن الوضع الأمريكي، ولا توجد أية إشارة فى التغطية الإعلامية الأمريكية إلى هذا٬ والشيء نفسه يقال فيما يتعلق بالعنصرية٬ أما موضوع فاشية رئيسنا وطغيانه فهذا هراء فى هراء.
أريد تناول هذه القضية منذ فترة٬ فى أثناء حوارى الممتد حول الحرب الروسية الأوكرانية مع أصدقاء ومعارف وزملاء اكتشفت- مصدومًا- أنهم يستمدون رواياتهم وتحليلاتهم من الإعلام الروسي٬ ولا يُعيرون أى اهتمام؛ لا بالحقيقة، ولا بما يقوله الإعلام الغربي٬ ولا يصدقون كلمة من كلامه٬ فى حين أنهم يثقون فى الإعلام الروسى ثقة عمياء، حتى عندما يقول، اليوم، ما يناقض كلامه بالأمس.
وفكرت قليلًا باحثًا عن تفسير لهذه الظاهرة٬ ناس ترفض أن تصدق أية كلمة صادرة عن إعلام «حر» متنوع ترى فيه جدالًا واختلافًا فى التحليل وفى تقدير المواقف٬ يستند إلى مئات من الشهود٬ له على الجبهة مئات من المراسلين٬ ويصدق إعلامًا موجهًا يميل إلى فبركة الأخبار ويتبنى روايات لا يصدّقها عقل.
وسرعان ما فرض التفسير نفسه٬ الإعلام الغربى ظلمَنا أيام الصراع مع إسرائيل٬ وظلمَنا أيام 11 سبتمبر وغزو العراق٬ وظلمَنا أيام الربيع العربى وحكم الإخوان. وظلم تديننا وثقافتنا ورأى فى فصيلٍ ما رمز وجسد كل الأمة وروَّج له وتغاضى عن ممارساته، وإن ذكرها مضطرًّا نسيها بسرعة فى تحليلاته٬
وهناك مفارقة على الغربيين تأملها… تغطية الإعلام الروسي، وهو فعلًا إعلام موجّه للأحداث فى منطقتنا كانت أكثر حِرفية وموضوعية من تغطية الإعلام الغربي، وهو فعلًا غير موجّه.
هنا يستنتج بعضنا من هذا الواقع الصادم- تغطية كلها افتراء فينا- أن الإعلام الغربى غير حر٬ وموجَّه، ويخدم مصالح دولية أو رأسمالية أو أيديولوجية مشبوهة٬ وهو استنتاج يتجاهل آليات عمل الإعلام الغربى وطبيعة علاقاته مع مجتمعه ودولته، وهى آليات وعلاقات فى غاية التعقيد، ليس لها تأثير أحادى يسمح بفرض توجه واحد.
الاستنتاج الصحيح، فى رأيي، أن الإعلام الموجه له فى أحوال كثيرة مصلحة فى الاقتراب من الحقيقة بقدر الإمكان٬ وأن عدم توجيه الإعلام لا يعنى ولا يضمن أن هذا الإعلام سيكون موضوعيًّا ومتعددًا يبتغى وجه الله والحقيقة.
لا أدافع عن مبدأ توجيه الإعلام، ولا أقول إن حرية الصحافة كلها شر٬ لكل نظام مخاطره، وقطعًا مخاطر توجيه الإعلام كبيرة جدًّا٬ ولكنه ضرورى إن كنا فى حالة حرب.
أعود إلى الإعلام الغربي٬ أولًا وبكل صراحة نحتاج إليه٬ ففيه كفاءات٬ ولديه إمكانيات٬ وللعاملين فيه رغبة فى الإجادة٬ وقدر معقول من الثقافة ومن الانفتاح على الغير. وثانيًا هذا لا يمنع أنه يعانى عددًا من الأمراض.
أولها… التنوع الأيديولوجى فى تراجع… فى فرنسا تسعة من عشرة صحفيين ينتمون إلى أقصى اليسار، وهذا يعنى أنهم فى نوع من العداء مع حكومة دولتهم٬ ويخلطون بين مهنتهم والمحاماة والناشطية.
يتبع
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية